الوقت- في خريف العام المنصرم، وفي لحظة فارقة من تاريخ حزب الله، أجمع مجلس شورى الحزب على تنصيب “الشيخ نعيم قاسم” أميناً عاماً جديداً خلفاً للسيد حسن نصر الله، سبق هذا التنصيب اغتيال الأمين العام السابق، السيد حسن نصر الله، في ضربة موجعة تلقاها التنظيم، فكان تقديم الشيخ نعيم قاسم خطوةً استراتيجيةً بالغة الأهمية للحفاظ على تماسك الحزب واستمرارية دوره الفاعل في المعادلات الداخلية اللبنانية والتحولات الإقليمية المتسارعة.
وخلال الأشهر الثمانية المنصرمة من تولي الشيخ نعيم قاسم دفة الأمانة العامة، لم يفلح حزب الله فحسب في تجاوز أحلك الظروف الإقليمية التي أججتها اعتداءات الكيان الصهيوني، بل استطاع أن يتبوأ مجدداً مكانته كلاعب محوري في تشكيل مسار الأحداث الداخلية في لبنان.
عالم الكيمياء ورجل الدين
أبصر الشيخ نعيم قاسم النور في شباط/فبراير 1953 في منطقة البسطة ببيروت، وهو سليل “الشيخ محمد قاسم” من إقليم التفاح في جنوب لبنان، أمين عام حزب الله الحالي متزوج وأب لستة أنجال، في ريعان شبابه، وتحديداً في الثامنة عشرة من عمره، عام 1971، شرع في مسيرته الأكاديمية بكلية التربية البدنية بالجامعة اللبنانية في بيروت، وتوّج مسيرته العلمية عام 1977 بنيل شهادة الماجستير في علوم الكيمياء، وبالتوازي مع ذلك، نهل قاسم من معين العلوم الدينية متتلمذاً على يد أعلام عصره كعباس الموسوي ومحمد حسين فضل الله، ثم انخرط في سلك التعليم لمدة ست سنوات.
من باكورة التأسيس إلى قمة الهرم التنظيمي
استهل الشيخ نعيم قاسم مشواره السياسي في صفوف حركة أمل إبان تأسيسها عام 1974، بيد أنه آثر الانسحاب منها عام 1979 ليواصل رسالته في تدريس العلوم الدينية في مساجد ومدارس بيروت، استهوته جذوة الثورة الإسلامية في إيران، فانخرط في اللجان الإسلامية المؤيدة للثورة التي كانت تضطلع بأنشطة إعلامية ومسيرات وخطابات حول الثورة الإسلامية الإيرانية، ممهِّداً الأرضية الخصبة لانبثاق تنظيم لبناني جديد، وفي عام 1982، كان الشيخ نعيم قاسم أحد الركائز الأساسية في صرح حزب الله اللبناني.
تقلّد الشيخ ثلاث دورات متعاقبة كعضو في مجلس شورى حزب الله، اضطلع في مستهل مسيرته بمسؤولية الأنشطة التعليمية والكشفية في بيروت، ثم ارتقى ليشغل منصب نائب رئيس المجلس التنفيذي وبعدها تبوأ رئاسة المجلس التنفيذي، وقد تولى منصب نائب الأمين العام للحزب منذ اعتلاء عباس الموسوي سدة الأمانة العامة عام 1991، وعقب اغتيال الموسوي وخلافة نصر الله له عام 1992، ظل في هذا المنصب الرفيع حتى اصطفائه خلفاً لنصر الله.
كما ترأس الشيخ قاسم مجلس العمل البرلماني لحزب الله، وأشرف على نشاط الكتلة السياسية الموالية للمقاومة في البرلمان اللبناني، واضطلع أيضاً بمهام المنسق العام للانتخابات البرلمانية للحزب منذ أول مشاركة له عام 1992.
في الواقع، خدم نعيم قاسم طوال فترة نشاطه في حزب الله ثلاث دورات متتالية في مجلس شورى الحزب، كان هذا المجلس يتألف من تسعة أعضاء يُنتخبون لمدة سنة واحدة من قبل أعضاء الحزب، الذين يتبوؤون مناصب رؤساء أقسام أو أعلى، وهذا يعني أن نعيم قاسم كان أحد القادة التسعة الكبار للحزب وقت تأسيسه، وتُعد علاقات الشيخ نعيم قاسم البرلمانية الوطيدة مع أعضاء البرلمان والمسؤولين الحكوميين اللبنانيين، إحدى السمات الفارقة له في متابعة الأهداف السياسية لحزب الله في المشهد السياسي الداخلي.
رقيب من نصر الله ورفيق دربه
كان الشيخ قاسم لصيق الصلة بنصر الله بحكم موقعه المرموق في مجلس شورى حزب الله، وامتدت علاقته الوثيقة بالسيد حسن نصر الله لعقود متتالية، وبرز الشيخ قاسم بصورة متواترة في وسائل الإعلام، وصدح بخطابات في محافل الحزب على مدار أكثر من أربعة عقود من مسيرته السياسية في حزب الله، وهكذا فإن قربه من السيد حسن نصر الله وخطاباته المفعمة بالبلاغة، هما أمران صقلا شخصية الشيخ نعيم قاسم ليغدو خطيباً مفوهاً يشار إليه بالبنان.
علاوةً على ذلك، ذاع صيت نعيم قاسم بوصفه “أبرز منظّري حزب الله” وقد أثرى المكتبة العربية بما يناهز 26 مؤلفاً في شتى الميادين، ويتصدرها كتابه الفذ “حزب الله: المنهج، التجربة والمستقبل” الذي يسطر فيه ملحمةً تاريخيةً للحزب، مستعرضاً مسيرته في العقود الثلاثة الأولى منذ انبثاق فجره عام 1982، ويستجلي في طيات هذا الکتاب القيّم أبرز المنعطفات في علاقة الحزب بالدولة اللبنانية ومؤسساتها، مستخلصاً جوهر مبادئه الفكرية وعلاقاته الدولية والإقليمية وخياراته الاستراتيجية في الساحة اللبنانية.
في مطلع تسعينيات القرن المنصرم، وإثر خلاف بين صفوة أعضاء حزب الله حول المشاركة في العمل البرلماني، أفضى إلى إقصاء أول أمين عام للحزب، صبحي الطفيلي، واستبداله عام 1991 بالسيد عباس الموسوي، تقلّص عدد أعضاء مجلس شورى حزب الله إلى سبعة، وفي الآن ذاته، امتدت مدة ولايتهم إلى سنتين واستُحدث منصب نائب الأمين العام، تبوأ نعيم قاسم هذا المنصب للمرة الأولى، وظل فيه طوال فترة الأمانة العامة للموسوي وخليفته، السيد حسن نصر الله.
وفي عهد نصر الله، تحولت مدة عضوية مجلس الشورى إلى ثلاث سنوات، وتبلورت وترسخت خمسة مجالس في الهيكل التنظيمي لحزب الله: المجلس السياسي، والمجلس الجهادي، والمجلس التنفيذي، والمجلس البرلماني، والمجلس القضائي، يدير دفة كل مجلس أحد أعضاء مجلس الشورى، وقد أشرف الشيخ نعيم قاسم على عمل هذه المجالس الفرعية طوال هذه الحقبة، ومن هذا المنظور، اكتسب رؤيةً شاملةً في إدارة حزب الله منذ عقود في منصبه كنائب للأمين العام.
الأمانة العامة في ظروف استثنائية غير مسبوقة
دفعت فصائل المقاومة المختلفة ضريبةً باهظةً في تاريخ المواجهات مع الكيان الصهيوني، من عز الدين القسام إلى الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وفتحي الشقاقي، مؤسس حركة الجهاد الإسلامي، وخليل الوزير (أبو جهاد)، الرجل الثاني في حركة فتح، وأبو علي مصطفى، الأمين العام للجبهة الشعبية، وصولاً إلى الاغتيالات الأخيرة لقادة حماس، من اغتيال صالح العاروري في لبنان إلى اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي السابق، في طهران، كلها شواهد ناصعة على استشهاد قادة فصائل المقاومة المختلفة، لكن هل أوقف استشهاد القادة هذه الفصائل عن مواصلة المسير؟
ما من ريب في أن استشهاد قادة المقاومة لم يفض إلى توقف أو تقهقر أي من فصائل المقاومة، وعلى هذا المنوال، فإن استشهاد الأمين العام السابق لحزب الله، السيد حسن نصر الله، لم يؤد إلى انكفاء حزب الله، بل إن الأمين العام الجديد، الشيخ نعيم قاسم، يتابع بعزم وحزم أهداف حزب الله.
بعبارة أخرى، يمكن القول إن ما جرى في أيلول/سبتمبر 2024 كان استثنائياً من نواحٍ شتى فيما يتعلق بحزب الله اللبناني، فلم يقتصر الأمر على استشهاد السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، بل لحق به بعد أيام معدودة نائبه هاشم صفي الدين، إضافةً إلى ذلك، طال الاستهداف تقريباً جميع الصف الأول والثاني من القيادة، وكان الشيخ نعيم قاسم في هذه الظروف العصيبة من رواد الحزب الذين استطاعوا قيادة سفينة حزب الله من قلب عاصفة الأزمة إلى شاطئ الأمان.
واليوم، يتولى الشيخ نعيم قاسم زمام الأمانة العامة في ظروف غير مسبوقة، في أحلك لحظة في تاريخ الحزب منذ تأسيسه، حيث تتوالى الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، وتتصاعد الضغوط داخل لبنان من قبل الأطراف المقربة من الغرب، وهدف الغربيين في لبنان و"إسرائيل" في آن واحد، هو اقتلاع حزب الله من دائرة النفوذ وتجريده من سلاحه، لكن خلال الأشهر الثمانية المنصرمة، ورغم استمرار القصف في ظل وقف إطلاق النار، استطاع أمين عام حزب الله، بفضل علاقاته السياسية المتشعبة مع مختلف الأطياف اللبنانية، أن يحول دون تحقيق "إسرائيل" لمآربها في لبنان.
وبالنظر إلى خطابات ومواقف الشيخ نعيم قاسم، من المستبعد أن تختلف فترة ولايته من حيث النهج الاستراتيجي لمواجهة "إسرائيل" عن سلفه، يصف نعيم قاسم في مؤلفاته المعركة مع "إسرائيل" بأنها معركة جلية، ويعتبر تحرير جنوب لبنان أحد فصول هذه الملحمة الكبرى، ومع ذلك، ثمة أهداف أخرى، كالسعي الحثيث لتحرير مزارع شبعا، وكذلك ضرورة “الردع ضد الأطماع التوسعية الإسرائيلية”، والتي وفقاً للشيخ نعيم قاسم لا يستطيع الجيش اللبناني النهوض بها نظراً لاختلال ميزان القوى بينه وبين جيش الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي يتعين على حزب الله متابعة هذه الأهداف السامية.
يقدّم الشيخ قاسم في الوقت نفسه أسباباً وجيهةً لامتناع حزب الله عن التخلي عن سلاحه أو سحب مقاتليه من الجنوب، ويضع هذه الأسباب في إطار اختلال ميزان القوى بين الجيش اللبناني وقوة الاحتلال الصهيوني، ويشدّد على أن المقاومة هي رد فعل طبيعي على الاحتلال، وأن أي عمل تقوم به هو نتيجة للاحتلال، وأن تكلفة مقاومة الاحتلال، مهما بلغت فداحتها، أقلّ وطأةً من تكلفة الاستسلام له.
كما يرى الشيخ نعيم قاسم أن المواجهة مع "إسرائيل" لا تحسمها القوة المادية وحدها، بل ثمة عوامل مؤثرة أخرى تلعب دوراً محورياً فيها، أبرزها الأداء الفعال، والروح المعنوية، والظروف المحلية والإقليمية والدولية، وفي تحليله لعوامل النصر والهزيمة، يلفت الأنظار إلى أن “العديد من الأحزاب والجماعات والمنظمات في منطقتنا العربية، مُنيت بالهزيمة حين انصرفت إلى قضايا ثانوية وحشدت طاقاتها لقضايا فرعية، فغفلت نتيجةً لذلك عن القضايا الجوهرية”، ويضيف: “الأولوية القصوى هي مكافحة إسرائيل ونبذ أي حرب أهلية في لبنان”.
هذا النهج الراسخ للشيخ نعيم قاسم، المتجلي في خطاباته ومؤلفاته، يكشف أن حزب الله في عهد الشيخ نعيم قاسم سيواصل بعزم أوثق التأكيد على قضية مكافحة "إسرائيل" لبلوغ غاياته النهائية.
