الوقت - في مشهد يعيد إلى الأذهان خطاب الاستعلاء الإمبراطوري القديم، فجّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جدلًا واسعًا بطلبه إعفاء السفن الأمريكية العسكرية والتجارية من رسوم العبور في قناة السويس، معتبراً أن بلاده "تحمي" هذا الممر المائي الحيوي ويجب أن تُكافأ على ذلك، وبينما جاء الرد الرسمي من بنما رافضًا وحاسمًا، اختارت القاهرة الصمت، فاشتعلت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، غاضبة ومترقبة.
الخبير العسكري والاستراتيجي اللواء د. سمير فرج وصف تصريحات ترامب بالوقحة والمستفزة، واعتبر أنها تأتي في إطار الصراع الأمريكي الصيني حول "طريق الحرير"، مشيرًا إلى أن قناة السويس تمثل أحد أبرز المفاصل الاستراتيجية في هذا المشروع، وسخر فرج من محاولات ترامب ربط أمريكا بتاريخ القناة، مشددًا على أنها حفرت بين عامي 1859 و1869، في وقت كانت فيه أمريكا تعاني من حرب أهلية، ولم يكن لها أي دور لا من قريب ولا من بعيد في هذا المشروع العالمي.
الإعلامي عمرو أديب طالب مصر برد رسمي واضح، قائلاً إن "ترامب لا يفهم إلا لغة القوة"، داعيًا القيادة المصرية إلى تكرار موقفها الحاسم الذي اتخذته في رفض تهجير الفلسطينيين، وأضاف أديب بثقة: "120 مليون مصري سيكونون خلفك يا سيسي إن قلت لا لمن يقترب من قناة السويس".
أما الدكتور محمد البرادعي، فاعتبر الطلب الأمريكي "عبثًا قانونيًا وتزويرًا للتاريخ"، موضحًا أن الولايات المتحدة ليست طرفًا في اتفاقية القسطنطينية لعام 1888 التي تنظم الملاحة في القناة، وليست مسؤولة عن حمايتها، وأكد أن القناة منذ تأميمها عام 1956 هي جزء لا يتجزأ من السيادة المصرية، وأن فرض رسوم العبور حق سيادي لا ينازع فيه أحد.
السفير فرغلي طه عبّر عن استيائه من لهجة الإدارة الأمريكية، واصفًا إياها بـ"الفوقية والمهينة"، منتقدًا الصمت المصري الرسمي تجاه تلك التصريحات، ومشيرًا إلى أن هذا الصمت يفتح الباب لتأويلات ومطالبات أمريكية أكثر خطورة في المستقبل.
من جانبه، رأى السفير د. عبدالله الأشعل أن تصريحات ترامب تمثل فرصة لمصر لتأكيد استقلال قرارها، داعيًا إلى التحرر من "هيمنة أمريكية ناعمة" تمارس بأشكال متعددة، منها فرض الامتيازات الاقتصادية والعسكرية التي تصب في مصلحة "إسرائيل".
انتهاك للسيادة
الدكتور محمد مهران، خبير القانون الدولي، لم يكتف بوصف تصريحات ترامب بالخرق الفاضح للسيادة المصرية، بل اعتبرها عودة لمرحلة الامتيازات الأجنبية الاستعمارية التي لفظها المجتمع الدولي، وأوضح أن قناة السويس، وفقًا للقانون الدولي، تخضع لسيادة مصرية كاملة، وأن مبدأ المرور الحر مقترن بدفع رسوم متساوية دون تمييز، مضيفاً إن ما تطالب به الولايات المتحدة يناقض ما كانت تمارسه هي ذاتها، حين فرضت رسوماً على السفن العابرة لقناة بنما أثناء سيطرتها عليها.
وحذّر مهران من أن مطالب كهذه، إن تُركت بلا رد، قد تفتح شهية دول أخرى للمطالبة بامتيازات مشابهة، وهو ما يهدد استقرار النظام القانوني الذي يحكم الممرات البحرية الدولية.
تصعيد متدرج وخطير
المطلب الأمريكي لم يأتِ في فراغ، بل تزامن مع فتح لجنة الشحن البحري الفيدرالية الأمريكية تحقيقًا بشأن "نقاط الاختناق البحرية العالمية"، شملت قناة السويس، وبنما، والقناة الإنجليزية، في خطوة اعتبرها مراقبون محاولة لوضع اليد على الممرات الملاحية تحت ستار التنظيم.
رئيس شركة "زينث إنتربرايز"، عمرو قطايا، رأى في الخطوة جزءًا من سباق أمريكي محموم لبسط السيطرة على الممرات العالمية، ولا سيما تلك التي تشكل أعصاب التجارة بين الشرق والغرب، مشيرًا إلى أن الاستثمارات الصينية في بنما قد تكون السبب الحقيقي خلف التحرك الأمريكي، وهو الأمر نفسه الذي قد يتكرر مع قناة السويس، ضمن مساعي تطويق النفوذ الصيني.
صراع الهيمنة على الممرات المائية
في تحليله للأزمة، ربط مصطفى الفقي، السياسي والدبلوماسي المصري، بين خطاب ترامب التوسعي وتاريخه كرجل أعمال، محذرًا في مقال له بعنوان "المضايق المائية.. الخطر القادم" من رغبة الرئيس الأمريكي في فرض الهيمنة على الممرات المائية تحت ذريعة "الحماية"، وهي الذريعة ذاتها التي استعملها سابقًا مع أوروبا ودول الخليج الفارسي.
واستحضر الفقي تهديدات ترامب السابقة، التي لوّح فيها لحكام الخليج الفارسي بأن بقاءهم في الحكم مرهون بالحماية الأمريكية، في مقابل مئات المليارات، متوقعًا أن يكون طلب إعفاء السفن الأمريكية من رسوم قناة السويس خطوة أولى في اتجاه السعي لفرض سيطرة فعلية على القناة.
قناة السويس: السيادة والحق التاريخي
وتعود جذور قناة السويس إلى ما قبل التاريخ الحديث، حيث تم تنفيذ أول قناة مائية تربط البحرين الأحمر والأبيض في عهد الملك المصري سنوسرت الثالث عام 1847 ق.م، وظلت الفكرة تتجدد على مر العصور حتى حُفرت بصورتها الحالية في القرن التاسع عشر، ما يفنّد زعم ترامب بأن بلاده لها فضل في تأمينها أو إنشائها.
اليوم، ومع تصاعد التوترات في البحر الأحمر إثر هجمات أنصار الله واستهداف السفن المتجهة إلى "إسرائيل"، تتراجع حركة الملاحة في قناة السويس بنسب كبيرة، ما يزيد من أهمية الحفاظ على هذا الشريان الحيوي كرافد أساسي للاقتصاد المصري، ولا سيما في ظل تراجع عائدات السياحة والصادرات.
ولم تغب الجهود المصرية لحماية القناة، إذ تسلمت مؤخرًا قيادة قوة المهام البحرية الدولية (CTF 153)، وأطلقت قاعدة برنيس العسكرية في الجنوب لحماية المصالح القومية في البحر الأحمر، ما يعكس الدور المحوري الذي تلعبه مصر في ضمان أمن هذا الممر الدولي، بعكس ما يروج له ترامب ومستشاروه.
إن طلب ترامب الأخير يكشف حجم التحولات الجارية في العلاقات الدولية، حيث تسعى القوى الكبرى لفرض واقع جديد تضع فيه مصالحها فوق القوانين والمعاهدات، وهو اختبار حقيقي للسيادة المصرية، ولمدى قدرة القاهرة على اتخاذ مواقف تحفظ هيبتها ومصالحها القومية.
الصمت، وإن كان له دلالات دبلوماسية أحيانًا، لا يجب أن يُطيل الغياب في مواجهة تحدٍ بهذا الحجم، قناة السويس ليست مجرد ممر مائي، بل عنوان كرامة واستقلال، خط أحمر لا يجب تجاوزه، لا من ترامب، ولا من غيره.