الوقت - في غمرة تعطش السلطة الجديدة في سوريا بقيادة هيئة تحرير الشام لتحصيل شرعية إقليمية ودولية، وبينما شرع أحمد الشرع المكنى بأبي محمد الجولاني في مدّ جسور التواصل الخارجي سعياً وراء هذه الغاية واستجداءً للدعم الاقتصادي، كشفت مصادر إعلامية عن إبداء حکام دمشق الجدد استعدادهم للرضوخ والانصياع لكل الاشتراطات والمطالب الأمريكية مقابل رفع طوق العقوبات.
وأماطت وكالة رويترز اللثام يوم السبت عن استجابة سوريا كتابياً لاشتراطات الولايات المتحدة لتخفيف وطأة العقوبات المفروضة عليها.
ووفقاً لما أوردته الوكالة، فإن سوريا تعهدت في رسالتها ليس فقط بألا تشكل أي خطر على الوجود الصهيوني في الأراضي السورية أو تهديد لمصالح هذا الكيان مستقبلاً، بل وعدت أيضاً بالتصدي لنشاط الفصائل الفلسطينية على أرضها، بل إن موقع “المونيتور” أفصح عن رضوخ هيئة تحرير الشام ضمنياً لمطالب أمريكية مستجدة كالاعتراف بحق الولايات المتحدة في استهداف شخصيات محددة على الأراضي السورية، وهو ما يعني منح حرية الحركة والتصرف للقيام بغارات جوية في سماء سوريا.
وأشارت المصادر الإعلامية إلى أن الشروط الأمريكية الأخرى تشمل التخلص النهائي من الترسانة الكيميائية، وإقصاء المقاتلين غير السوريين من المناصب الحكومية العليا، وتيسير مسار التحقيقات حول مصير الصحفي الأمريكي أوستن تايس، وتحمل مسؤولية المعتقلين السوريين في مخيم الهول.
وكانت وزارة الخارجية الأمريكية قد قدمت سابقاً قائمةً باشتراطاتها لاستئناف بعض الإعفاءات من العقوبات المفروضة على سوريا، وتشمل هذه العقوبات تلك المفروضة بموجب “قانون قيصر” الذي أُقر عام 2019، بالإضافة إلى تمديد “الترخيص العام 24” الذي يتيح إجراء بعض المعاملات مع الحكومة السورية الجديدة.
مآرب الولايات المتحدة
الهيمنة على المناطق الاستراتيجية السورية: أحكمت الولايات المتحدة في السنوات المنصرمة قبضتها على منابع النفط السورية في الشمال الشرقي من البلاد، وجنت ثمار تهريب وبيع نفط هذه المنطقة بطرق تنافي الشرعية الدولية، وخلال هذه الحقبة، وعلى الرغم من تسريب واشنطن في مناسبات متفرقة عزمها على الانسحاب العسكري الشامل من الأراضي السورية، إلا أنها لم تخط خطوةً حقيقيةً في هذا المضمار، بل استولت قواتها على بعض القواعد العسكرية الروسية في المناطق الشمالية بعد سقوط نظام الأسد وإخلاء هذه القواعد.
وطوال هذه المدة، وعلى الرغم من شكاوى الحكومة السورية السابقة إلى مجلس الأمن، أبت واشنطن إلا أن تتنكّر لسيادة سوريا متذرعةً بمكافحة "داعش" والإرهاب، ويبدو الآن أن الإدارة الأمريكية تسعى لضمان وجودها المديد في المناطق الحيوية السورية، هذا الشرط يمنح واشنطن ذريعةً للبقاء في المناطق النفطية شرق سوريا استناداً إلى “حق مكافحة الإرهاب”، والحيلولة دون عودة زمام السيطرة الكاملة على هذه المناطق إلى الحكومة المركزية.
وبحصولها على حق تنفيذ عمليات على الأراضي السورية، تستطيع الولايات المتحدة استهداف أي جماعة تعتبرها تهديداً لمصالحها (حتى الجماعات غير المرتبطة بداعش)، وينطبق هذا بشكل خاص على قوى المقاومة والمدافعين عن المواقف المناهضة للهيمنة الأمريكية.
قلب موازين القوى الإقليمية: يتجلى أن الولايات المتحدة توظف العقوبات كعصا غليظة لإرغام الحكومة السورية الجديدة على الخضوع لمنظومة أمنية مستحدثة تحت الوصاية الغربية، هذا الشرط يمثّل حجر زاوية في مخطط أمريكي أشمل لإعادة رسم خارطة علاقات سوريا مع الفاعلين الإقليميين لسلخها عن محور المقاومة، ودفعها نحو مستنقع التطبيع مع الكيان الصهيوني.
من جانب آخر، تدفع واشنطن بشروطها حكومة الجولاني إلى الإقرار باحتلال الكيان الصهيوني للأراضي السورية والتسليم به، فقد استغل الصهاينة الفراغ السلطوي الناجم عن انهيار نظام الأسد، وأقدموا على تدمير النسيج العسكري للجيش السوري واستباحة مساحات شاسعة من أراضي جنوب البلاد، ويجاهر الصهاينة في إعلان مخططاتهم لمستقبل سوريا بالحديث عن ضمّ الأراضي السورية إلى الأراضي المحتلة والتمهيد لتمزيق أوصال سوريا.
وفي هذا المشهد المأساوي، وعلى الرغم من أن التيارات التكفيرية برهنت مراراً على ولائها لمصالح الكيان الصهيوني على الأراضي السورية، إلا أن احتمال تفجر مقاومات شعبية ضد هذا المخطط الاستعماري، دفع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني إلى السعي لاستئصال وقمع جذوة المقاومة المتأججة في صدور الشباب السوري من خلال الحكومة الجديدة.
وأد القضية الفلسطينية في سوريا
كما أسلفنا، فإن أحد الاشتراطات الأمريكية الجوهرية لرفع العقوبات عن سوريا، والتي حظيت بموافقة حكومة الجولاني، هو مناهضة الفصائل الفلسطينية المتواجدة على الأراضي السورية.
تكشف التحولات التي شهدتها البلاد منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر (كانون الأول) من العام المنصرم حتى يومنا هذا، أن النهج السياسي والعسكري والأمني والقانوني للحكومة السورية الجديدة بقيادة الجولاني تجاه الفلسطينيين والفصائل المرتبطة بهم، يتساوق مع رؤية الولايات المتحدة لتصفية القضية الفلسطينية. ويتجلى هذا التماهي على ثلاثة مستويات:
1. المستوى الأول: طبيعة التعاطي مع السلطة الفلسطينية وسفارتها والحركات الإسلامية كحماس والجهاد الإسلامي، وكذلك الفصائل المنضوية تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية أو المنشقة عنها.
2. المستوى الثاني: العلاقة مع وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
3. المستوى الثالث: التعامل مع مخيمات اللاجئين وقاطنيها أو من هُجروا من هذه المخيمات.
على المستوى الأول، ومنذ اللحظات الأولى لاستيلاء الجماعات المسلحة المتمردة على دمشق، بادرت هيئة تحرير الشام إلى إغلاق مكاتب القيادة العامة وفتح الانتفاضة ومقر حزب البعث الفلسطيني (منظمة الصاعقة) في دمشق والمخيمات، ومصادرة ترسانتهم العسكرية ومركباتهم.
وعقب رفض الجولاني عقد لقاء مع الفصائل الفلسطينية، توافقت هذه الفصائل على توجيه رسالة إليه عبر السفارة تستجلي فيها وضع الفصائل وجيش التحرير، وشددت الرسالة على أن مقتنيات هذه الفصائل ملك خالص لها ولم تؤول إليها من الحكومة السابقة، وأن مساعدات الحكومة السابقة كانت تقتصر على لوحات المركبات فحسب، ومع ذلك، لم تُسترجع الممتلكات المصادرة، بل أصدرت الحكومة المؤقتة قرارات مستجدة فرضت قيوداً صارمةً على وجود الفصائل الفلسطينية في سوريا، ما قوّض أركان وجودها وأثّر على جميع الفصائل تقريباً باستثناء الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
وداهمت الأجهزة الأمنية التابعة لهيئة تحرير الشام بيت “أبو حازم زياد الصغير”، الأمين العام لفتح الانتفاضة، وهي فصيل منشق عن فتح، وبعد تفتيش واستجواب استمر ثلاث ساعات، أطلقت سراحه مقابل غرامة باهظة بلغت نصف مليون دولار.
كما خضع الأمين العام لمنظمة الصاعقة للاستجواب، لكنه لم يُدرج ضمن “فلول النظام السابق”، ومع ذلك، تمت مصادرة مقرات المنظمة ومركباتها وأصولها، واضطرت المنظمة إلى محو اسم “البعث” من هويتها الرسمية والتسمي باسم “منظمة الصاعقة”.
أما المستويان الثاني والثالث من الإجراءات المعادية للفلسطينيين التي اتخذتها سلطة المسلحين، فيتصلان بإحكام الخناق على معيشة اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات.
فالمخيمات الفلسطينية تئنّ تحت وطأة غياب القيادة الواضحة وظروف معيشية قاهرة، وكانت الجهاد الإسلامي وحماس (من خلال إدارة التنمية الفلسطينية) تضطلعان قبل ذلك بالدور المحوري في إغاثة المخيمات الفلسطينية في سوريا، ومع إغلاق مكاتب الفصائل، وخاصًة المراكز التي تقدم الخدمات الصحية والتعليمية، تعرض السكان لضربة موجعة، كما أدى حظر نشاط الجهاد الإسلامي إلى توقف عمليات نقل لاجئي مخيم اليرموك ومطابخ الخير التي كانت تسدّ رمق الجائعين، بل تحول مقر جمعية الصداقة الفلسطينية الإيرانية في اليرموك، إلى ثكنة عسكرية لهيئة تحرير الشام.
وعلى الرغم من أن الحكومة الجديدة لم تفرض قيوداً صريحةً على الأونروا، إلا أنها لم تمد لها يد العون أو توفر تسهيلات استثنائية، ولا يشي نهج سلطة المسلحين بأنها تعترف بالأونروا كمرجعية رسمية لمعالجة قضايا اللاجئين الفلسطينيين.
ومن ناحية أخرى، أدى تجميد أنشطة وكالة اللاجئين العرب الفلسطينيين عقب السطو على مقرها ليلة سقوط الحكومة السابقة، إلى أزمة خانقة للاجئين المتقاعدين المرتبطين بهذه المؤسسة، الذين يتقاضون معاشاتهم من مؤسسة التأمينات الاجتماعية العامة.
وفي مشهدٍ يجسّد ذروة التزلف والانبطاح لصالح الصهاينة، بلغت مساعي حكام دمشق المدعين الإسلام حدّ محاولة اقتلاع اللاجئين الفلسطينيين من جذورهم مرةً أخرى، حيث طرحت حكومة الجولاني، في مبادرة بعنوان تسوية أوضاع اللاجئين الفلسطينيين بوساطة تركية، ثلاثة خيارات أمامهم:
1. منح الجنسية للفلسطينيين أو إتاحة سبيل الحصول على الجنسية السورية.
2. التحول إلى مجتمع تابع للسلطة الفلسطينية مع نقل سجلاتهم إلى السفارة.
3. التهجير القسري مجدداً، على غرار المأساة التي حلت بفلسطينيي العراق.
والنتيجة الحتمية هي أن الفلسطينيين سيُقتلعون من المراكز السكانية والمكانة القانونية التي تبوؤوها في عهد الحكومة السابقة.
هذه السياسات الجائرة لن تمر حتماً دون ارتدادات وخيمة، فالعديد من أبناء سوريا يعتبرون نصرة فلسطين ركناً أصيلاً في هويتهم الإسلامية والوطنية، إن التضييق على اللاجئين الفلسطينيين مع التغاضي المتعمد عن توغل الكيان الصهيوني والقمع الدموي للأقليات، سيفضي إلى تبديد الفرصة العابرة والمحدودة التي كانت متاحةً للحكام الجدد لاستمالة قلوب أبناء سوريا وكسب ثقتهم.