الوقت - في تطور دراماتيكي يزيد من تعقيد المشهد السوداني، أعلن قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف بـ"حميدتي"، عن تشكيل حكومة موازية تحت مسمى "حكومة السلام والوحدة"، في خطوة أثارت ردود فعل دولية غلب عليها القلق والتحذير من تداعياتها المحتملة على وحدة السودان وسلامته الإقليمية.
يأتي هذا الإعلان في الذكرى السنوية الثانية للحرب التي اندلعت بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني في أبريل/نيسان 2023، والتي أوقعت عشرات الآلاف من القتلى، وشرّدت أكثر من 13 مليونًا، ودفعَت البلاد إلى حافة المجاعة والانهيار التام، في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية التي شهدها العالم المعاصر، حسب توصيف الأمم المتحدة.
الخطوة "الانفصالية" في ظل الانقسام الحاد
في خطاب مسجل بثّه يوم الثلاثاء، أكد حميدتي تشكيل حكومته الجديدة التي قال إنها تمثل "الوجه الحقيقي للسودان"، معلنًا أنها ستباشر تقديم الخدمات الأساسية ليس فقط في المناطق الخاضعة لسيطرة قواته، بل في جميع أنحاء البلاد، مضيفًا إن حكومته تعمل على إصدار عملة وطنية جديدة ووثائق هوية بديلة "حتى لا يُحرم أي سوداني من حقوقه".
وتنصّ ما تُسميه قوات الدعم السريع بـ"الدستور الانتقالي"، الموقع في مؤتمر عُقد مؤخرًا في كينيا، على إنشاء مجلس رئاسي مكوّن من 15 عضوًا يمثلون كل أقاليم السودان، في محاولة لإضفاء طابع مدني ومناطقي على الكيان الجديد.
لكن على الرغم من الشعارات التي رفعتها قوات الدعم السريع حول "السلام والوحدة"، فإن الخطوة اعتُبرت على نطاق واسع محاولة لفرض واقع سياسي جديد بالقوة، يكرّس انقسام البلاد بحكم الأمر الواقع.
مخاوف إقليمية ودولية من الانزلاق نحو التقسيم
ردود الفعل الدولية لم تتأخر، فقد حذّرت الأمم المتحدة، عبر المتحدث باسم أمينها العام، من أن هذه الخطوة قد تُفاقم تفكيك البلاد وتهدد وحدتها، بينما رأت الحكومة البريطانية أن "الإعلانات الأحادية" من هذا النوع لا تُفضي إلى حل، بل تزيد من ترسيخ الأزمة وتعقيدها.
ودعت دول مجموعة السبع، في بيان مشترك، إلى وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار، محذرة من استخدام "التجويع كسلاح حرب"، ومنع المساعدات الإنسانية، في انتقاد غير مباشر لكل أطراف النزاع، أما الولايات المتحدة، فقد أدانت "بشدة" تصعيد الدعم السريع هجماته، وخاصة تلك التي طالت مخيمات نازحين قرب مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، والتي أوقعت أكثر من 400 قتيل في أسبوع واحد، وأدت إلى نزوح ما لا يقل عن 400 ألف شخص.
تبدّل ميداني وتراجع في نفوذ الدعم السريع
ورغم إعلان حميدتي عن حكومته الجديدة، تشير التقارير الميدانية إلى تراجع قواته في عدد من الولايات السودانية، فالجيش السوداني، بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، استعاد السيطرة على مواقع استراتيجية في العاصمة الخرطوم، بما في ذلك القصر الرئاسي والمطار ومقار وزارية، كما استعاد أجزاء واسعة من شمال السودان وشرقه.
بالمقابل، تراجعت سيطرة الدعم السريع إلى جيوب محددة في دارفور وكردفان، رغم أنه لا يزال يحتفظ بمعاقله في المناطق الغربية من البلاد، وهاجمت قواته مؤخرًا مخيمات زمزم وأبو شوك للنازحين، ما أثار موجة تنديد حقوقية دولية بسبب استهداف المدنيين وعرقلة وصول المساعدات.
مؤتمر لندن: دعم إنساني دون اختراق سياسي
بالتزامن مع التصعيد الميداني والسياسي، عُقد مؤتمر دولي بشأن السودان في لندن، شاركت فيه دول ومنظمات مانحة من بينها الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، فرنسا، وألمانيا، وعلى الرغم من الإعلان عن مساعدات إنسانية بقيمة تجاوزت 800 مليون يورو، فإن المؤتمر لم يشهد أي اختراق دبلوماسي، ولم تتم دعوة أطراف النزاع السودانية للمشاركة، الأمر الذي اعتبرته الحكومة السودانية "إخلالاً بالسيادة".
وخلال المؤتمر، ندّد وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي بما وصفه بـ"الغياب المخزي للإرادة السياسية" في إنهاء الصراع، فيما حذرت ألمانيا من تدخلات خارجية تؤجج الصراع، مطالبة بوقف تدفق الأسلحة والمقاتلين إلى الداخل السوداني، وأعرب الاتحاد الأفريقي عن خشيته من تقسيم البلاد في حال استمرار الوضع الراهن.
المشهد الإنساني: كارثة ممتدة بلا أفق
في ظل استمرار الحرب، دخل السودان في دوامة من الانهيار، شملت البنية التحتية والخدمات الصحية والتعليمية، وتزايدت مؤشرات المجاعة، وخصوصًا في مناطق النزاع مثل دارفور وكردفان، وقدّرت منظمات دولية عدد ضحايا الحرب الحقيقيين بأكثر من 130 ألف قتيل، رغم أن الأرقام الرسمية تشير إلى نحو 24 ألفًا فقط، نظرًا لانهيار النظام الصحي وغياب الإحصاءات الموثوقة.
وفي تقرير حديث، كشفت الأمم المتحدة عن مقتل أو تشويه أكثر من 2700 طفل خلال عام واحد فقط، وهي أرقام يُرجح أن تكون أقل بكثير من الواقع، كما توقعت المنظمة الدولية للهجرة عودة أكثر من مليوني نازح إلى العاصمة الخرطوم خلال الأشهر المقبلة إذا سمحت الظروف الأمنية، ما سيشكل تحديًا هائلًا للمنظمات الإنسانية والبنية التحتية المنهكة.
يبقى السودان، بعد عامين من الحرب، بلا سلطة شرعية موحّدة، تتنازع عليه قوتان عسكريتان تمارسان سلطتهما على رقعة جغرافية مقسّمة، في ظل غياب أفق لحل سياسي جامع، ورغم الدعم الإنساني الدولي، فإن غياب الحلول السياسية، واستمرار التدخلات الخارجية، وغياب الإرادة من أطراف الصراع، تُنذر بتحوّل الأزمة السودانية إلى حرب استنزاف طويلة، قد تُفكك البلاد فعلًا، لا مجازًا.
في المشهد الراهن، لا حكومة حميدتي ولا قوات البرهان تملك وحدها مفتاح الخلاص، بل قد يكون الحل الوحيد في توافق سياسي مدني شامل، يُعيد للسودان صورته الموحدة ويُنقذه من مصير دولٍ تمزقت بفعل الحرب، ولم تتعافَ حتى اليوم.