الوقت - على مشارف مباحثات مصيرية مرتقبة بين طهران وواشنطن في مسقط، عاصمة سلطنة عُمان، حطّ "عباس عراقجي"، وزير الخارجية الإيراني، رحاله مؤخراً في مدينة الجزائر العاصمة، وقد أماط "إسماعيل بقائي"، الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية، اللثام عن مغزى هذه الزيارة، من خلال نشر صور توثّق هذا الحدث، مصرحاً بأن لقاء كبار المسؤولين الإيرانيين والجزائريين يرمي إلى تحقيق مصالح الشعبين الشقيقين.
الجزائر: درة استراتيجية في تاج القارة السمراء
تتربع الجزائر، ذلك القطر الأفريقي، على عرش المرتبة العاشرة عالمياً من حيث الرقعة الجغرافية، وتنتصب شامخةً في شمال أفريقيا، وتمتد سواحلها الخلابة على ضفاف البحر المتوسط، وتحتضن في أحشائها صحراء شاسعة مترامية الأطراف، وتشدّ أواصر الصداقة بين أكبر دولة أفريقية وإيران علاقات تاريخية راسخة، إذ لم تشهد روابط الود بين طهران والجزائر عثرات تذكر خلال أكثر من نصف قرن من الزمان.
وتستحضر الجزائر في ذاكرة إيران معاهدة تاريخية فاصلة، ففي عام 1975، أي قبل زهاء نصف قرن، أُبرمت اتفاقية الجزائر بين إيران والعراق بمساعٍ جزائرية حميدةوقد رسمت هذه الاتفاقية خط الحدود بين البلدين في مياه "أروند رود"، واشتهرت باسم “معاهدة الجزائر” نسبة إلى الإعلان المشترك الذي أعلن في الـ 6 من مارس 1975 في الجزائر العاصمة، والذي مهد السبيل لتوقيع المعاهدة، كما احتضنت الجزائر توقيع كل المعاهدات والملاحق والاتفاقيات المتعلقة بترسيم الحدود بين إيران والعراق.
وفي الوقت الراهن، وبينما يتأهب المسؤولون الإيرانيون للقاء تاريخي مع نظرائهم الأمريكيين في مسقط، نزل وزير الخارجية الإيراني ضيفاً كريماً على الجزائريين، ومن المرجح أن يلتقي المسؤولون الإيرانيون والأمريكيون في مسقط بعد زيارة الجزائر، بيد أن العلاقات الإيرانية الجزائرية تسمو بكثير فوق التطورات السياسية العابرة قصيرة الأمد.
فلسطين: جوهرة العقد بين طهران والجزائر
يُعد الشعبان الإيراني والجزائري من أبرز المناصرين للقضية الفلسطينية بين أمم الإسلام، وقد أدلى عبد المجيد تبون، رئيس الجمهورية الجزائرية، في صيف العام المنصرم، خلال حملته الانتخابية، بتصريحات نابضة بالصدق والعزم دعماً للقضية الفلسطينية، إذ قال: “والله العظيم لن نتخلى أبداً عن فلسطين، وخاصة غزة الصامدة”، ويتجاوز الارتباط بين الجزائر وفلسطين حدود الأحداث الراهنة والحرب المستعرة في غزة، إذ يمكن تتبع جذور هذه الأواصر تاريخياً إلى عهد صلاح الدين الأيوبي، وكذلك إلى عام 1948 وانبثاق الحركة الصهيونية الاستيطانية، ففي أيام النكبة السوداء، هب الجزائريون لنصرة إخوانهم الفلسطينيين، وقدموا قوافل من الشهداء على ثرى فلسطين الطاهر، حتى حين كانت الجزائر ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي.
وتتصدر الجزائر طليعة الدول العربية التي اتخذت، على مر العصور، مواقف صارمة في دعم فلسطين ومجابهة سياسات الكيان الصهيوني، وقد أعلن ساسة الجزائر مراراً وتكراراً معارضتهم الحازمة للکيان الصهيوني بسبب سياساته الاستيطانية التوسعية، وانتهاكاته الصارخة لحقوق الإنسان، وعدوانه المستمر على الشعب الفلسطيني الأعزل.
وقد أشاد عراقجي، وزير الخارجية الإيراني، خلال زيارته الأخيرة للجزائر، بمواقف هذا البلد الشقيق في نصرة فلسطين، قائلاً: “إننا نجل ونقدر دور ومكانة الجزائر في مجلس الأمن دفاعاً عن القضية الفلسطينية العادلة”. ويكشف هذا التصريح أن القضية الفلسطينية تظل المحور الأساسي المشترك بين البلدين، وأن كلا الطرفين يتبنى موقفاً موحداً ومتطابقاً بشأن تحرير فلسطين من براثن الاحتلال.
دخول إيران في شمال أفريقيا وإقصاء "إسرائيل" من الاتحاد الأفريقي
من بديع المصادفات أنه بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية الإيراني للجزائر في شمال أفريقيا، عارضت الجزائر ودول أخرى مشاركة في الاجتماع السنوي للاتحاد الأفريقي، حضور سفير الكيان الصهيوني في هذا المحفل، وأقدمت على طرده شر طردة.
ويمثل هذا الإجراء الحازم ضربة موجعة لمساعي "إسرائيل" للتغلغل في القارة الأفريقية، وهو الإجراء الذي ما فتئ المسؤولون الإيرانيون يؤكدون عليه، مطالبين بقطع كل أشكال العلاقات السياسية والدبلوماسية مع تل أبيب.
كما يعكس طرد ممثل "إسرائيل" وإدانة جرائمها في الاتحاد الأفريقي تحولات جذرية في مواقف الدول الأفريقية، وتعزيز تضامنها في دعم الشعب الفلسطيني المكافح، ومن هذه الزاوية تحديداً، تجد الجمهورية الإسلامية الإيرانية تقارباً وانسجاماً كبيرين مع الدول الأفريقية، ولا سيما الجزائر.
نظرة الغرب إلى الحضور الإيراني في شمال أفريقيا
تناولت وسائل الإعلام الغربية زيارة عباس عراقجي لأفريقيا بقلق بالغ وتوجس ظاهر، وقد زعمت تقارير وسائل الإعلام الغربية أو العربية المناوئة للجمهورية الإسلامية، أن اهتمام إيران بتعزيز العلاقات مع الجزائر يندرج ضمن استراتيجيتها لترسيخ موطئ قدم لها في غرب أفريقيا من خلال إبرام اتفاقيات التعاون الاقتصادي مع دول المنطقة، بما في ذلك الجزائر.
وحسب مزاعم هذه الوسائل المغرضة، تسعى إيران لتحقيق مآربها معتمدة على النفوذ الاجتماعي لاستقطاب النخب الفكرية والثقافية في هذه البلدان.
أما الحقيقة الناصعة فهي أن الجزائر أيضاً تبدي اهتماماً جلياً بالتقارب مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية بسبب المواقف الإقليمية المشتركة بين الطرفين، ففي مارس من العام المنصرم 2024، وقعت الجزائر وطهران ست اتفاقيات تعاون مثمرة خلال زيارة “إبراهيم رئيسي”، الرئيس الإيراني الراحل، إلى الجزائر.
وفي الواقع، تسعى الجزائر جاهدة للانعتاق من قيود العزلة في محيطها الأفريقي بعد تدهور علاقاتها مع بعض الدول، إذ شهدت علاقات متوترة مع دول تحالف الساحل، التي تضم النيجر ومالي وبوركينا فاسو، خلال السنوات القليلة الماضية، وقد استدعت هذه الدول سفراءها من الجزائر، كما اتهمت الجزائر مالي بالتدخل السافر بعد إغلاق مجالها الجوي أمامها إثر سقوط طائرة مسيرة استطلاعية تابعة لمالي، وعلى هذا الأساس المتين، تمثل العلاقات الوثيقة مع إيران حالياً فرصة ذهبية للجزائر لكسر طوق العزلة في القارة الأفريقية.
وقد أثار التقارب المتنامي بين إيران والجزائر في غرب أفريقيا مخاوف المغرب، الذي تربطه علاقات وطيدة مع "إسرائيل"، فقد قطع المغرب علاقاته مع طهران منذ عام 2018 بذريعة دعم إيران لجبهة البوليساريو الانفصالية، رغم إعلان طهران استعدادها الدائم لإصلاح العلاقات مع المغرب.
وإذا كُتب النجاح لطهران والمغرب في إحياء علاقاتهما الثنائية، فقد تضطلع إيران بدور الوسيط النزيه في تخفيف حدة التوتر بين الجزائر والمغرب، بيد أن هذا السيناريو لا يروق للغرب و"إسرائيل"، اللذين يسعيان حثيثاً لتطويق إيران وعزلها.
ومع ذلك، تؤذن زيارة عراقجي إلى الجزائر بفصل جديد مشرق من فصول الدبلوماسية الإيرانية النشطة في أفريقيا، ومع توسيع هذه العلاقات وتعميقها، قد تتبوأ إيران مقام الوسيط الفاعل في تهدئة الأجواء المتوترة في العلاقات بين دول شمال أفريقيا.
الفرص الاقتصادية الواعدة التي تقدمها الجزائر لإيران
حري بنا أن نستشرف أن الجزائر يمكن أن تكون بالنسبة لإيران دولة ذات مكانة اقتصادية مرموقة، فالرقعة الجغرافية الشاسعة، والثروات الطبيعية الوفيرة، والاستقرار السياسي المنشود، وكونها رابع أكبر دولة من حيث احتياطيات الغاز في العالم، كلها عوامل تهيئ فرصاً ذهبية لأنشطة إيران واستثماراتها في الجزائر الشقيقة.
كما أن الاقتصاد النفطي المزدهر والخطوات الجبارة التي تخطوها الجزائر للانضمام إلى منظمات دولية مرموقة مثل شنغهاي وبريكس تشير بوضوح إلى أنها، شأنها شأن إيران، تتطلع إلى عالم متعدد الأقطاب، وقد كانت مجالات الرعاية الصحية المتطورة، والتكنولوجيا الحيوية الرائدة، وصناعة السيارات المتقدمة، والبنية التحتية الحديثة، وصناعة تقنيات النانو المبتكرة، والطاقة المتجددة، أهم ميادين التعاون المثمر بين إيران والجزائر في السنوات الخوالي، والتي يمكن توسيع آفاقها الآن.
وقد صدرت إيران في عام 2023 ما يربو على مليون و134 ألف دولار من السلع غير النفطية إلى الجزائر، بزيادة قدرها 109% مقارنة بالعام السالف، وهذا لا يشمل المنتجات النفطية المكررة الإيرانية في الجزائر، وعليه، تمثل الجزائر بالنسبة لإيران أرضاً خصبة للفرص الاقتصادية والتجارة الخارجية، يمكن لطهران اقتطاف ثمارها اليانعة، بل النظر إلى الجزائر كبوابة ذهبية للولوج إلى دول أفريقية أخرى واعدة.