الوقت- كانت العلاقات بين روسيا والكيان الصهيوني مصحوبة دائمًا بتقلبات مختلفة في السنوات الأخيرة، ومن بين العوامل والسياقات التاريخية لتشكيل الشراكة السياسية والاقتصادية والحفاظ عليها، كان لظهور مكونات جيوسياسية متباينة أيضًا تأثير على تقلب هذا الاتجاه.
إن الكيان الصهيوني، باعتباره الحليف الرئيسي والاستراتيجي لحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة في منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا، كان يتصرف دائمًا في سياسته الخارجية بطريقة تضمن أنه في المواجهة المتزايدة بين روسيا والولايات المتحدة في مراكز المنافسة الجيوسياسية في مختلف المناطق، يدعم بشكل كامل السياسة والمصالح الإقليمية للولايات المتحدة، ولكن أيضًا لديه أقل مواجهة مباشرة مع موسكو.
إن اتباع هذه السياسة القائمة على شد الحبل في المنافسة بين روسيا والغرب حال دون وصول هذا الصراع على الصعيد الأمني إلى حد الصراع، حتى في الأزمات الجيوسياسية الكبرى مثل الأزمتين السورية والأوكرانية، حيث كانت موسكو طرفاً رئيسياً وكانت تل أبيب الطرف الآخر.
والآن، وفي ظل الوضع الذي نجح فيه الكيان الصهيوني خلال الأشهر الأخيرة، إلى جانب الولايات المتحدة وتركيا وأوكرانيا، في الإطاحة بنظام بشار الأسد في سوريا، وبالتالي الاستيلاء على أهم مجال نفوذ وموطئ قدم لروسيا في الجغرافيا العربية والشواطئ الاستراتيجية للبحر الأبيض المتوسط، وبوابة موسكو إلى أفريقيا، فإن تزايد المخاوف الأمنية على الحدود الشمالية للأراضي المحتلة دفع الصهاينة إلى اللجوء مرة أخرى إلى موسكو لتقليل مخاوفهم.
وفي هذا الصدد، أعلنت شبكة "آي 24 نيوز" الإسرائيلية هذا الأسبوع في تقرير لها أشار إلى الرحلة الأخيرة لوزير الدفاع بنيامين نتنياهو إلى موسكو، أنه سعى خلال هذه الرحلة إلى تحقيق ثلاث مهمات، إحداها: أن إسرائيل تفضل أن تستمر السيطرة على سوريا تحت إشراف روسي بدلا من تركيا.
وجاء في البيان: "أرسل نتنياهو سكرتيره العسكري اللواء رومان هوفمان إلى موسكو لعقد سلسلة من الاجتماعات حول القضايا الأمنية بهدف تنسيق وتعزيز التعاون بين البلدين مع حماية المصالح الأمنية".
وفي واقع الأمر، أدى صعود جبهة تحرير الشام وزيادة التدخل العسكري التركي في سوريا إلى خلق معادلة أمنية جديدة على الحدود الشمالية للكيان الصهيوني، تل أبيب، التي كانت دائما تشعر بالقلق إزاء التهديدات التي يشكلها وجود إيران ومحور المقاومة في سوريا، تواجه الآن تحديا مختلفا: النفوذ المتزايد لتركيا والإخوان المسلمين وصعود الجهات الفاعلة التي، بنهج أيديولوجي تكفيري، تخلق حالة من الفوضى الأمنية في سوريا.
وتؤكد صحيفة يديعوت أحرونوت المؤثرة، أن بنيامين نتنياهو معني بالحفاظ على الوجود العسكري الروسي على الأراضي السورية، على أمل أن يوفر ذلك رافعة ضغط ضد تركيا، صاحبة النفوذ الرئيسي على الحكومة الانتقالية في دمشق.
وذكرت الصحيفة أن السلطات السورية الجديدة، التي لا يزال الإسلاميون يتمتعون بنفوذ كبير بينها، طلبت من أنقرة أسلحة حديثة كجزء من اتفاقية دفاعية جديدة بين البلدين.
وحسب صحيفة "يديعوت أحرونوت"، فإن نتنياهو يحاول منع التوصل إلى اتفاق دفاع بين سوريا وتركيا، وحسب هذا المشروع، قد تحصل دمشق على طائرات مقاتلة من دون طيار، ورادارات، وأنظمة حرب إلكترونية، وأنظمة دفاع جوي من أنقرة، وبالإضافة إلى ذلك، تجري مناقشة إنشاء قواعد عسكرية تركية على الأراضي السورية، حيث يمكن أن تتمركز طائرات هجومية.
وذكرت وكالة رويترز أن ممثلي رئيس الوزراء الإسرائيلي أثاروا هذه القضية في واشنطن خلال المفاوضات مع الأمريكيين لأنه لا يريد أن تقع قاعدتا اللاذقية وحميميم في أيدي الأتراك.
وتدرس الولايات المتحدة حاليا بشكل نشط ما إذا كانت ستطالب بإغلاق القاعدتين الروسيتين في طرطوس وحميميم كشرط لرفع العقوبات عن سوريا، وحسب رويترز، خصصت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي اجتماعا لهذه القضية، حيث قال رئيسها جيم ريش إن دمشق يجب أن تثبت استعدادها للامتثال لمطالب المجتمع الدولي، بما في ذلك قطع العلاقات مع روسيا.
وأعرب أيضا عن قلقه من سماح سوريا للوفد الروسي بدراسة القضايا المتعلقة بهذه القواعد، لكن "إسرائيل" تعتقد أن انسحاب روسيا من سوريا قد يؤدي إلى وقوع طرطوس وحميميم تحت السيطرة التركية، على سبيل المثال، يمكننا أن نذكر تصريحات وزير النقل التركي عبد القادر أورال أوغلو، التي تحدث فيها عن اهتمام تركيا بتطوير الموانئ السورية وزيادة التجارة في المنطقة.
وفي مثل هذه الظروف، يرى نتنياهو أنه من الضروري إقامة حوار مع موسكو، ويشير اختيار السكرتير العسكري بدلاً من شخص من وزارة الخارجية أو وزير الحرب في الكيان لتنفيذ هذه المهمة، إلى أهمية الرحلة بالنسبة لنتنياهو، إذ يعد السكرتير العسكري لرئيس الوزراء أحد أهم المناصب في سلسلة واسعة من المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين، وحسب وسائل إعلام إسرائيلية، فإن الجنرال الذي يشغل هذا المنصب لديه القدرة على الوصول إلى جميع المعلومات في مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي، ويعمل كحلقة وصل بين الحكومة وأجهزة الاستخبارات.
وعزت المنشورات الصهيونية اختيار هوفمان لإرساله إلى موسكو إلى إتقانه اللغة الروسية، لكن الأمر يتجاوز ذلك ويعود إلى التشققات في مجلس الحرب وانعدام ثقة نتنياهو بوزير الدفاع ومسؤولي الأمن، ويعتبر هوفمان نفسه أحد الرجال الموثوق بهم لدى نتنياهو، وخاصة في ظل الصراع بين رئيس الوزراء وهيرتسي هاليفي، رئيس أركان الجيش، ورونين بار، رئيس جهاز الأمن العام التابع للكيان، ومن الواضح أن نتنياهو يعتزم إنشاء منطقة عازلة مدنية في جنوب سوريا، بالاعتماد على الدروز الذين يعيشون بكثافة في هذه الأرض ويؤمنون بدين محدد تطور من الإسلام الإسماعيلي في العصور الوسطى.
ويرى دانيلا كريلوف، الباحث في مجموعة الشرق الأوسط بمعهد معلومات العلوم الاجتماعية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، أن "إسرائيل" لا تملك الكثير من الخيارات للاختيار من بينها فيما يتعلق بأهداف نتنياهو في الاقتراح الجديد لبوتن، وإذا توصلت تركيا والنظام السوري إلى اتفاق، فإن تركيا لن تحتل شمال سوريا فحسب، بل ستقترب بشكل أساسي من حدود شمال لبنان وحدود "إسرائيل" في جنوب سوريا، وإذا لم يتوصلوا إلى اتفاق واتجهت سوريا نحو الفوضى الأمنية فإن الوضع سيكون مأساويا للغاية بالنسبة لـ"إسرائيل".
وتعرف "إسرائيل" جيداً أن إضعاف الجيش السوري وترك فراغ في السلطة في دمشق قادر على تلبية المطلب الشعبي بمواجهة الاحتلال الصهيوني والتركي والحفاظ على وحدة أراضي البلاد، سيؤدي إلى تشكيل خلايا مقاومة مسلحة في كل أنحاء البلاد من العشائر وقوات الجيش السابقة والجماهير العفوية من الناس، ما سيخلق تحديات أمنية واسعة النطاق لتل أبيب، وتعلم تل أبيب جيداً أيضاً أن أنقرة، ورغم انخراطها حالياً في قضايا داخلية وتنافسات إقليمية، يمكنها أن تستخدم نفوذها في سوريا للضغط على "إسرائيل" في المستقبل.
في هذه الحالة، تعارض تل أبيب من جهة الهيمنة الكاملة لتركيا والجماعات التابعة لها في سوريا، ومن جهة أخرى لا تريد الفوضى والاضطرابات الأمنية طويلة الأمد بالقرب من حدودها، وبالتالي، فإن وجود روسيا كقوة موازنة في سوريا يمكن أن يحد من هذه العملية ويمنع نفوذ تركيا من التوسع إلى أبعد مما ينبغي، لكن هذا التكتيك الجديد لنتنياهو لا يبدو عملياً جداً لأن هيئة تحرير الشام والجماعات التكفيرية المتحالفة معها لديها وجهة نظر سلبية تماماً تجاه روسيا بسبب سنوات الحرب الأهلية ودور تركيا في دعم الحكومة السابقة عسكرياً، وثانياً، تركيا أيضاً ستعارضها بشدة.