الوقت - خمدت تدريجياً نيران الاشتباكات المسلحة بين مناوئي حكم الجولاني ومقاتلي هيئة تحرير الشام في المنطقة الساحلية السورية بعد يومين من سفك الدماء، غير أن تبادل القذائف المتناثر والعمليات الفدائية ضد المسلحين، ما فتئت تتواصل بوتيرة متصاعدة.
وتفيد المعلومات الأولية والتقارير الصادرة عن مصادر محلية، بأن عناصر هيئة تحرير الشام أزهقت أرواح ما يربو على ستمئة نفس من أبناء الطائفة العلوية القاطنين في المنطقة الساحلية خلال الأيام المنصرمة، وقد تركزت فظائع المسلحين في مناطق بانياس، وجبلة، والتويم، والمختارية، والقبو.
ونظراً لاتساع رقعة الهجمات الدموية، واستباحة دماء العلويين، وارتكاب شتى صنوف الفظائع وتوثيقها بمقاطع مصورة، فإن التقديرات ترجّح تنامي موجة الانتفاضة الشعبية في المنطقة الساحلية ضد سلطة الجولاني، وازدياد العمليات المسلحة ضد عناصر هيئة تحرير الشام في تلك المناطق.
في هذا السياق، أجری موقع "الوقت" التحليلي حواراً مع السيد "داود أحمد زاده"، الخبير والمحلل في شؤون غرب آسيا، لسبر أغوار هذه الانتفاضة المسلحة ضد هيئة تحرير الشام، والوقوف على جذورها، واستشراف آفاق المشهد السوري في قادم الأيام.
الوقت: لِمَ لم تنهض مقاومة ذات شأن عند سقوط دمشق في قبضة المسلحين، بينما تنامت جذوة المواجهة المسلحة ضد الحكم الجديد مع مرور الأيام؟
السيد أحمد زاده: "تكمن في صلب هذه المسألة حقيقة جوهرية، وهي أن التدخلات الخارجية وأساليب الإدارة المفروضة من الخارج، ولا سيما من الجانب التركي الطامح بإحكام قبضته على سوريا بأكملها، جعلت من اندلاع المواجهات أمراً محتوماً، في مستهل مسيرتها، عمدت هيئة تحرير الشام، في محاولة لذرّ الرماد في العيون وتوسيع رقعة نفوذها، إلى التظاهر بأنها تسعى نحو سوريا موحدة، غير أن الأيام كشفت عن تصاعد موجات عاتية من العنف في معاقل العلويين والشيعة في سوريا، وبلغت هذه الأعمال الوحشية أوجها بصورة غير مسبوقة، كما أن المنهج السياسي والفكر العقائدي لهيئة تحرير الشام، وما اتخذته من مساعٍ لاحتكار السلطة في سوريا، أفضى إلى اشتعال انتفاضات ضدها في تلك المناطق.
ومن منظور آخر، نشهد تدخلات بالغة الخطورة من قبل دول المنطقة الأخرى، فالكيان الصهيوني، مستغلاً حالة الوهن والتقاعس التي تعتري الدول العربية وغياب قوة إقليمية ذات بأس، يتربص بالمناطق الجنوبية من سوريا طمعاً في ابتلاعها، وفي الضفة المقابلة، رغم إعلان حزب العمال الكردستاني عن مهادنة وتسوية مع سلطة الجولاني، استجابةً لتوجيهات أوجلان، إلا أن هذه الفصائل ما برحت متمترسة في شمال سوريا، رافضةً التخلي عن ترسانتها العسكرية".
الوقت: ما العقبات والمعضلات التي ستعترض طريق الجولاني في مسعاه لتوطيد أركان حكمه في ظل تصاعد هذه الانتفاضات المسلحة؟
السيد أحمد زاده: "يلوح في الأفق أن مستقبل سوريا تكتنفه سحب من الضبابية والغموض، جراء تدخل القوى الإقليمية والدولية، ولا بد من الإقرار بأن هيئة تحرير الشام قد أخفقت في نسج خيوط الوئام والانسجام المنشود بين أطياف المجتمع السوري من أقليات وقوميات وطوائف، وقد شهدت الأيام الأخيرة تأججاً محموماً لنيران العنف.
وكما ألمحنا سابقاً، فإن المناطق الشمالية من سوريا التي تقبع تحت سيطرة القوات الكردية، والتي تربطها وشائج استراتيجية مع المعسكر الغربي، وتُعد من الحلفاء الاستراتيجيين للولايات المتحدة، تبسط نفوذها على منابع الثروة النفطية السورية، وتطالب بنصيب وافر من السلطة المستقبلية في سوريا، رافضةً الانصياع لإمرة هيئة تحرير الشام والجولاني.
فضلاً عن ذلك، نرصد مساعي الكيان الصهيوني الحثيثة للتوغل في جنوب سوريا بغية إحكام قبضته على تلك المناطق، ما يُعرِّض أمن سوريا لمخاطر لا يُستهان بها، إن النزعات الانفصالية المتنامية في سوريا، قد تعصف بمستقبل البلاد والحكومة المركزية التي تخضع لسلطة الجولاني، مهددةً إياها بمخاطر جسام.
وفي كل الأحوال، فإن إقصاء الأقليات والقوميات وحرمانها من المشاركة الفعلية في دفة الحكم، قد يحوِّل الأطماع الانفصالية إلى حقيقة ملموسة على أرض سوريا، فعلى امتداد نصف قرن مضى، كانت دفة الحكم في سوريا بيد سلطة أحادية الحزب، بيد أنها تمكنت من إخضاع شتى القوميات والأقليات السورية لسلطانها رغم التدخلات والاضطرابات، أما في المشهد الراهن، ومع تلاشي هيبة الدولة المركزية، تتسابق الفصائل المختلفة نحو تحقيق مآربها الحزبية والقومية، وهذا المسار قد يزداد وطأةً وخطورةً مع تغلغل القوى الإقليمية والدولية".
الوقت: ما الخطة الاستراتيجية التي ستنتهجها تركيا، بوصفها الظهير الرئيسي لهيئة تحرير الشام والنظام الجديد، لتجاوز المحنة التي تعصف بحليفها؟ وهل ستتحول أرض سوريا إلى مستنقع يبتلع أحلام أنقرة وطموحاتها؟
السيد أحمد زاده: "الحلم الذي داعب مخيلة أردوغان بإحكام قبضته على ربوع سوريا، واعتبارها درةً في تاج إمبراطوريته العثمانية الجديدة، قد تبدد أمام صخرة الواقع، لقد سعى أردوغان لاستثمار الورقة السورية كرأس حربة في صراع النفوذ الإقليمي ضد منافسيه، غير أن الأحداث المتلاحقة واشتعال نيران المواجهات في أرجاء سوريا، تكشف عن عجز أردوغان والقيادة التركية عن احتواء الأزمة وتطويعها، رغم الحضور الميداني والاستخباراتي المكثف للقوات التركية على الساحة السورية، ورغم أن صناعة هيئة تحرير الشام تمت بأيادٍ تركية وبتناغم مع الدوحة.
إن مجريات الأحداث على الساحة السورية، تفضح بجلاء هشاشة المنظومة السياسية التركية في تحقيق مطامعها الإقليمية، والمشهد الراهن يشكّل معضلةً حقيقيةً لتركيا ذاتها؛ فمن جانب، تشتعل نيران الصراع بين الأقليات القومية في سوريا، ما يحول دون استتباب الأمر لهيئة تحرير الشام، ومن جانب آخر، تلوح في الأفق ظلال لاعبين جدد يتطلعون للتأثير بقوة في المشهد السوري، وهذا يشير إلى أن مسرح الأحداث، خلافاً لما نسجته مخيلة الأتراك من أوهام، لا يمنح الحكومة التركية فرصة تحقيق مآربها في سوريا منفردةً ودون الاستعانة بقوى إقليمية أخرى، أو بسط نفوذها على سوريا من كل الجوانب".
الوقت: في الختام، هل تنزلق سوريا نحو أتون حرب أهلية جديدة؟ وما هي المقدمات والشروط اللازمة لاشتعال نيران حرب أهلية والتي تتجلى في المشهد السوري الراهن؟
لقد أبان هذا الخبير في الشأن الإقليمي عن رؤيته لاحتمالية اندلاع حرب أهلية في سوريا قائلاً: "جوهر القضية يكمن في أن سوريا تواجه، للمرة الأولى منذ نيلها الاستقلال، خطراً محدقاً يتمثل في التشرذم والانقسام. فسوريا تقف اليوم على مفترق طرق خطير في ظل تطورات تنذر بمخاطر تفوق في تعقيدها كل ما شهدته البلاد في تاريخها؛ ذلك أن المؤشرات الإقليمية والدولية تنبئ بانهيار السلطة المركزية للدولة، كما أن هيئة تحرير الشام تفتقر إلى البسط الكامل على مختلف أرجاء سوريا، وتعجز عن فرض إرادتها على الأقليات والقوميات المتباينة.
وهذا ينذر بانقسام سوريا إلى كيانات متناثرة؛ فوجود فسيفساء من القوميات كالأكراد في الشمال السوري، والدروز في الجنوب، والعلويين على ضفاف المتوسط، والسنة الممتدين من الشمال حتى تخوم دمشق، يجعل من المرجح أن يسعى كل طرف إلى انتزاع مكاسبه القومية والحزبية، متنكّباً عن مسار الوحدة المركزية المنشودة".
واختتم هذا الخبير في شؤون غرب آسيا تحليله قائلاً: "لقد بات جلياً أن نهج حكومة هيئة تحرير الشام، قد أسهم إسهاماً بالغاً في تأجيج هذا الوضع المتفجر، وتعميق الهوة بين مختلف القوميات والطوائف، وهذا المسار قد يدفع بالأوضاع نحو منزلق خطير، ولا بد من الإقرار بأن هيئة تحرير الشام لن تفلح في إدارة دفة الحكم في سوريا بقبضة من حديد، ما لم تنل كل قومية حقوقها المشروعة في ظل منظومة عادلة، ومسار ديمقراطي يكفل للجميع حقوقهم".