الوقت - مع إعلان وقف إطلاق نار الحرب، تداعت مجدداً أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وأثبتت المقاومة الباسلة أن المنطق الوحيد الذي يستسيغه الصهاينة، هو منطق القوة والبأس والحديد.
لقد دخل المحتل أرض غزة رافعاً راية القضاء على المقاومة وشوكتها، بيد أنه غادرها - بعد خمسة عشر شهراً من التدمير والإبادة الممنهجة - مدحوراً مكسور الشوكة.
إن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة فريد في نوعه، فقلّما شهدت صفحات التاريخ طرفاً يتباهى بكونه قوةً إقليميةً، ويحظى بمؤازرة ما تُسمى القوى العظمى، يُرغم صاغراً على الإذعان لشروط خصمه - ذلك الخصم الذي يراه، وفق موازين القوى المادية، واهناً، مستضعفاً، منهكاً، محطماً، ومحاصراً.
وها قد أذعن المحتلون لاتفاق وقف إطلاق النار، وارتضوا تنفيذ مرحلته الأولى، التي تتضمن تحرير قرابة ألفي أسير فلسطيني من غياهب سجون الاحتلال، بينهم 296 ممن حُكموا بالمؤبد، والانسحاب من قطاع غزة، وعودة المهجرين إلى ديارهم، وفتح المعابر، وتسيير 600 شاحنة يومياً، والشروع في إعادة الإعمار، مع احتفاظ حماس بترسانتها - كل ذلك مقابل الإفراج عن 33 من أسراها لدى المقاومة، فعمَّت اليوم مشاعر الندم والمرارة والهزيمة أروقة المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية للكيان الصهيوني.
بيد أن هذا كان اتفاقاً "قسرياً"، ليس فقط لأن دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة مارس ضغوطاً لإبرامه، بل لأن حالة الإنهاك والتخبط في مستنقع غزة لم يكن لها من مخرج يُرتجى، فكان التدخل الأمريكي طوق النجاة لحكومة الحرب الصهيونية المتهاوية.
إن تجبر نتنياهو وعُتوّه، وهو الغارق في لُجَّة الإنكار والنكوص عن الحقائق الجلية، لَيُنذر بانهيارٍ أشدّ وطأةً للمشروع الصهيوني وأفوله المحتوم، وهو ما حذَّره منه نخبة القادة الأمنيين والعسكريين والمعارضة الصهيونية، مهيبين به إبرام اتفاقٍ والتوصل إلى تسويةٍ سياسية تحظى - كما تظهر استطلاعات الرأي - بتأييد السواد الأعظم من المستوطنين الصهاينة.
غير أن هذا الاتفاق لا يزال يقف على أرضٍ رخوة، إذ إن حلفاء نتنياهو المقربين في حكومته لم يستسيغوا مرارة الهزيمة ولم يطيقوا تجرع كأسها، ويرون في استئناف أوار الحرب ضرورةً لا محيد عنها، متربصين بالفرص للنيل من المقاومة، فالإذعان لشروط المقاومة، إنما هو نذير شؤمٍ يُؤذن ببدء العد التنازلي لأفول نجم المشروع الصهيوني، ناهيك عن سقوط نتنياهو وخاتمة مسيرته السياسية المشؤومة.
وتتجلى هشاشة الاتفاق في تصريحات نتنياهو المتواترة، التي تتوعد بسحق حماس واقتلاع جذورها من غزة، حتى بعد إنفاذ المرحلة الأولى من الاتفاق، وفي وعوده الشفهية المعسولة لسموتريتش وزير ماليته.
أما انفصال ابن غفير وحزبه عن حكومة نتنياهو، ووصفه للاتفاق بالكارثة والاستسلام المذل أمام حماس، فيكشف عن حالة السخط العارم والغليان المستعر في أوساط اليمين المتطرف.
وعلى الرغم من الشعور المتفشي بالإخفاق في بلوغ الغايات المنشودة، فإن غالبية الصهاينة - كما تكشف استطلاعات الرأي - يؤيدون المضي قُدماً في تنفيذ الاتفاق، حيث يناصر قرابة ستين بالمئة منهم مواصلة المفاوضات وإنفاذ المرحلة الثانية، في حين يجزم واحد وستون بالمئة بزيف وعود نتنياهو في القضاء على نفوذ حماس وسيطرتها في قطاع غزة.
وقف إطلاق النار: بين الإرغام والاقتدار
أعلن اللواء محمد الصمادي، المتبحر في دقائق الشؤون العسكرية والاستراتيجية، أن المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة قد أثبتت مقدرتها الفذة على إنهاك جيش الاحتلال الصهيوني وإدماء قواه، متسلحةً بفنون حرب العصابات، مع امتلاكها زمام المبادرة لمواصلة هذا النهج حتى عام كامل.
وكشف الصمادي، في تحليله للمشهد العسكري في القطاع، أن إقرار جيش الاحتلال بسقوط قتلاه في شمال القطاع، يظهر عظم المآزق التي تكبدها في مواجهة صولات المقاومة وجولاتها.
ونوّه، مسلطاً الضوء على تصاعُد استخدام المقاومة للعبوات الفتاكة كـ"شواظ" التي أحالت العديد من الآليات العسكرية الصهيونية إلى حطام، بأن هذه العمليات تجسّد براعة المقاومة المتجددة وتطور أساليبها القتالية.
وأكد الصمادي أن المقاومة تعتمد في عملياتها النوعية على نخبة من المقاتلين، حيث يغدو بمقدور قناص فذ أو ثلة من المقاتلين إحداث تحولات جذرية في ميدان الحرب.
لا تزال أصداء اتفاق تبادل الأسرى مع حركة حماس تدوي في أروقة الإعلام الصهيوني، مثيرةً تساؤلات عميقة حول مقدرة جيشهم على اقتلاع جذور المقاومة من أرض غزة.
فقد أماط أمير بار شالوم، المراسل العسكري لإذاعة جيش الاحتلال، اللثام عن إطلاق حماس، في الأيام السابقة للاتفاق، عشرين صاروخاً، انطلق أربعة عشر منها من شمال القطاع، ولا سيما من بيت حانون، وأردف شالوم أن جيش الاحتلال قد واجه كتائب، بلغ معها حدّ العجز عن استئصالها.
ويتناغم مايكل ميلشتاين، رئيس قسم الدراسات الفلسطينية في جامعة تل أبيب، مع هذا الطرح، إذ صرح للقناة 12 بأن جيشهم واجه نسخةً متجددةً من حماس، ويرى ميلشتاين أن حركة حماس دخلت طوراً جديداً من التكيف، متحولةً من نظام الكتائب إلى المجموعات الصغرى.
وأضاف: "فليعلم كل من يتشدق في الكيان الصهيوني بالنصر، أن الوصول إلی آخر مقاتل أو آخر مجموعة من حماس، ضربٌ من المحال".
وفي السياق عينه، كشف يوسي يوشوع، المراسل العسكري لصحيفة يديعوت أحرونوت، أن جيشهم يتخبط في معضلة مع حماس، لقدرتها الفائقة على استقطاب المزيد من المقاتلين وتمتعها بولاء يكاد يكون مطلقاً من أهل القطاع، ما جعل ثمن البقاء في غزة باهظاً يفوق طاقة جيش الاحتلال.
وکتب حاييم رامون، وزير العدل الصهيوني السابق، في صحيفة معاريف، تعقيباً على خطاب تنحي هرتسي هاليفي، رئيس أركان جيش الاحتلال، الذي أقرَّ فيه بأن "غايات الحرب لم تُدرَك بعدُ، وأن جيش الاحتلال ماضٍ في مساعيه لاجتثاث حماس"، قائلاً: "بعد خمسة عشر شهراً من الصراع المحتدم، خابت مساعينا في بلوغ المرام، إذ قدَّم رئيس الأركان خطةً عسكريةً عقيمةً لم تكن تملك من حظوظ النجاح نصيباً، فكانت النتيجة أن حماس لا تزال متمسكةً بزمام قدراتها العسكرية".
وقد أفصح هاليفي في خطابه عن إخفاق جيش الاحتلال في صون أمن الكيان الصهيوني، مؤكداً فداحة الثمن المدفوع، وأضاف: "أضع نكسة السابع من أكتوبر 2023 في عنقي، وتلك الهزيمة النكراء تؤرق مضجعي، وتلازمني في كل نَفَس وحين".
ويعزو رامون المسؤولية إلى ثالوث الإخفاق: هاليفي، ووزير الحرب يوآف غالانت الذي آثر الانسحاب سابقاً، ورأس الهرم نتنياهو.
وأردف قائلاً: "وهكذا وجدنا أنفسنا مرغمين على إبرام صفقة تبادل، تُجسّد الهزيمة بأجلى صورها، وأحسب أننا لم نكن نملك من الخيارات سوى الرضوخ للاتفاق، فعلى الأقل سنظفر باستعادة الأسرى، ولو كان الثمن إخماد نيران الحرب وإبقاء زمام غزة في قبضة حماس".
وختم مقاله مطالباً نتنياهو بالتنحي، معلّلاً ذلك بأنه "المسؤول الأوحد عن المجزرة والفشل الذريع في إدارة دفة الحرب، ولا يسوغ له البقاء متربعاً على كرسي الوزارة وكأن شيئاً لم يكن".
وفي سياق متصل، کشف مسؤول في جيش الاحتلال عن حاجة جيشهم لاستقطاب عشرة آلاف جندي جديد لتعزيز شوكته، وسدّ الثغرات في صفوفه.
وأکد دادو بن خليفة، رئيس قسم القوى البشرية في جيش الاحتلال، خلال انعقاد لجنة العلاقات الخارجية والأمن في الكنيست، ضرورة استنفار اليهود الحريديم أيضًا.
وقد استعر الجدل حول الحاجة الملحة للقوات في جيش الاحتلال، بين قادة الحرب وأرباب السياسة والتشريع الصهاينة عقب سريان اتفاق وقف إطلاق الحرب في فلسطين المحتلة، إذ يُتهم نتنياهو بطمس الأرقام الحقيقية لمن سقطوا قتلى وجرحى من جنود الاحتلال في حرب غزة.
حماس في أعقاب وقف إطلاق الحرب
أحرزت حماس وفصائل المقاومة نصراً مؤزراً في معركة الإرادات، وأحبطت كل مساعي المحتل الغاشم في إخضاع المقاومة وثني عزيمتها، فضلاً عن تقويض مخططاته في السيطرة على غزة، وتحرير أسراه، وتقرير مصير القطاع، وتأمين مستوطنات غلاف غزة، کما تهاوت محاولات الکيان لتهجير الأهالي، في إطار مؤامرة جنرالاته لإفراغ شمال القطاع ومشاريع توطين المستوطنين في أرجائه.
وأفضى هذا الظفر المبين، إلى دكّ أركان النظرية الأمنية الصهيونية على يد المقاومة الفلسطينية، وتبديد سراب الملاذ الآمن للصهاينة في فلسطين المحتلة، وإعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة القضايا العالمية، وكشف زيف الرواية الصهيونية وبهتانها، وإعلاء شأن الرواية الفلسطينية، وتحويل الكيان الصهيوني إلى كيان منبوذ، وتقويض مشاريع التطبيع المشؤومة مع الأنظمة العربية، وإلحاق الهزيمة النكراء بالمشروع الصهيوني.
ولا تزال حماس تتبوأ مكانةً ساميةً في قلوب أبناء فلسطين في الداخل والشتات، ولم تُفلح كل المجازر والمذابح في فصم عُرى هذا التلاحم، بل نجحت في استقطاب آلاف المقاتلين الجدد إلى صفوف كتائب القسام.
غير أن حماس تجابه تحديات جسيمة في أعقاب تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق، حيث يتجلى التحدي الأول في إدارة القطاع، حيث تُصر السلطة في رام الله على تولي مقاليد الأمور، ما قد يُفضي إلى مواجهة محتدمة مع حماس وفصائل المقاومة.
فالسلطة تسعى حثيثاً لتنفيذ تعهداتها للمحتل بالحيلولة دون استعادة المقاومة لشوكتها ونزع سلاحها، مع رفضها القاطع لأي انتخابات حرة ونزيهة، لعلمها اليقين بأن ثمارها ستؤول إلى حماس وقوى المقاومة.
ويتجسّد ذلك في تطلعات الكيان الصهيوني وأمريكا والدول الأوروبية وبعض الأنظمة العربية، للحؤول دون استرداد حماس لزمام القوة في غزة، أو مشاركتها المباشرة أو غير المباشرة في تسيير شؤونها.
ورغم أن حماس لا تأنف من التوصل إلى توافق وطني حول إدارة غزة دون أن تتصدّر بالضرورة صفوف المسؤولية، إلا أن السلطة تسعى جاهدةً لتجريد المقاومة من سلاحها، وتهميش حماس سياسياً واجتثاث كوادرها ومناصريها من الهياكل الرسمية في غزة، أي إنها تروم تحقيق ما أعيا المحتل تحقيقه في كل حروبه وسنوات حصاره.
کذلك، سيواصل الکيان وأمريكا وحلفاؤهم الإقليميون، بمؤازرة السلطة، الضغط على حماس وفصائل المقاومة وابتزازها عبر إطباق الحصار والتحكم بملف إعادة الإعمار، إذ إن أحوال أهل القطاع بلغت حد المأساة، وتلبية احتياجاتهم الحيوية وإعادة إعمار زهاء تسعين بالمئة من المنازل والبنى التحتية المدمرة، يُمثّل عبئاً ثقيلاً على كاهل حماس والمقاومة.
ويكفي أن نعلم أن تكلفة إعادة الإعمار، وفق الدراسات والتقديرات العالمية، تناهز ثمانين مليار دولار، وأن إزالة الركام وحدها تستلزم ما يربو على مليون وثلاثمئة ألف شاحنة.