الوقت- الانتماء الطائفي، أصبحت هذه هي التهمة الجاهزة التي تُبرر بها عناصر ما تُسمى "هيئة تحرير الشام"، بقيادة أحمد الشرع المعروف بـ"أبو محمد الجولاني"، تصفية وإبادة العديد من الضحايا الأبرياء في سوريا.
إن سجل هيئة تحرير الشام مليء بالانتهاكات الفاضحة، حيث تُعد الجماعة مسؤولة عن سلسلة من الجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك القتل خارج نطاق القانون، والاعتقالات التعسفية، والتعذيب الممنهج، فضلًا عن اضطهاد الأقليات الدينية والعرقية في المناطق الخاضعة لسيطرتها.
منذ أن تولى الجولاني زمام الأمور، أصبح مصير الأقليات في سوريا مأساويًا بشكل غير مسبوق، حيث تُمارس هيئة تحرير الشام سياسة تمييز ممنهجة تجاه الأقليات الدينية، وخاصة الطائفة الشيعية، حيث تتعرض هذه الفئة للاستهداف المتعمد والانتقام السري.
تُشير تقارير حقوقية وشهادات محلية إلى أن الهيئة تستخدم أساليب متنوعة لإرهاب الأقليات، بدءًا من مصادرة الممتلكات، وفرض القيود على حرية العبادة، وصولًا إلى عمليات الاخفاء القسري والقتل الميداني تحت ذرائع واهية.
هذا السجل الأسود يعكس الطبيعة القمعية والدموية للجماعة، حيث تسعى إلى فرض هيمنتها باستخدام الدين كغطاء سياسي لتنفيذ أجندتها المتطرفة، وتُعتبر جرائمها تهديدًا ليس فقط للتعايش السلمي في سوريا، بل للقيم الإنسانية بشكل عام، وإذا استمرت هذه السياسة الطائفية تحت حكم الجولاني، فإن مستقبل الأقليات الدينية في سوريا يبدو أكثر قتامة، ما يستدعي تدخلًا دوليًا عاجلًا لوقف هذا المسار الكارثي وضمان حماية الحقوق الأساسية للجميع دون تمييز، وهنا يطرح السؤال أين هم دعاة الحرية والتحرر و القضاء على الديكتاتور بشار والمطبلون للتغيير مما يحصل من مجازر في ريف حمص وغيرها من المناطق ذات المكون الشيعي أو المسيحي أو العلوي؟
من أحضان "القاعدة" إلى صدارة المشهد السوري
بعد اندلاع الصراع في سوريا في عام 2011، توجهت أنظار التنظيمات العراقية نحو سوريا، حيث وجدت فيها فرصة سانحة لتوسيع أو نقل نشاطها إلى منطقة أخرى.
وكان الجولاني من بين عدة أشخاص أوفدهم آنذاك البغدادي إلى سوريا لتمهيد الظروف من أجل تأسيس فرع جديد لتنظيم "الدولة الإسلامية" على الأراضي السورية، وعلى مقربة من الحدود العراقية، استهلت عملها عبر توزيع المساعدات، ليكون بوابة لكسب ود الناس وبناء سمعة جيدة لدى الشارع السوري.
وبالفعل بدأت في عام 2012 تنتشر مقاطع فيديو لعمليات توزيع مساعدات تشمل الخبز والأغذية وأسطوانات الغاز على الأهالي في بعض المناطق النائية، وعلى التوازي مع ذلك، عمل الجولاني على تجنيد أعضاء ومقاتلين في التنظيم، والاستعداد لتنفيذ عمليات ضد القوات الحكومية.
في يناير من العام نفسه، أعلن الجولاني في بيان، تشكيل "جبهة النصرة لأهل الشام"، داعياً السوريين إلى "الجهاد لإسقاط النظام"، وفي تلك الفترة كان يُخفي التنظيم ارتباطه بجماعات خارجية، وكان يقول قادته الميدانيون إن هدفهم "إقامة دولة إسلامية تقوم على نظام الشورى يسود فيها العدل والإحسان"، واستطاعوا ضم مقاتلين سوريين وأجانب، بعضهم قدم من العراق وبعضهم الآخر دخلو سوريا عبر الحدود التركية.
واستطاعت خلية "التلي" خطف العديد من الجنود اللبنانيين في عام 2014 والدخول في مفاوضات مع الجيش اللبناني للإفراج عنهم في صفقة تضمنت خروج شقيقه من سجون سوريا، كما عُرف في العام نفسه، خلال أزمة "راهبات معلولا" عندما اختطف عدداً من الراهبات وأطلق سراحهن مقابل صفقة حصل فيها على مبالغ طائلة، وانتقل إلى محافظة إدلب بموجب اتفاق بين "حزب الله" اللبناني و"هيئة تحرير الشام" في أغسطس 2017.
في الوقت نفسه كانت تنتشر مقاطع تُظهر ممارسات عنيفة لعناصر من التنظيم ضد مدنيين وعسكريين، على غرار الإعدام بإطلاق النار مباشرة على الرأس، وكانت تلك المشاهد تُثير الفزع والرعب والقلق من تمدد هذه التنظيمات مع ما تنتهجه من تشدد وعنف.
في ديسمبر 2012، صنفت الخارجية الأمريكية "جبهة النصرة" كمنظمة "إرهابية"، وفي مايو 2013، تم تصنيف أبو محمد الجولاني، على أنه "إرهابي عالمي مُصنَّف بشكل خاص"، وأعلنت الولايات المتحدة حجز ممتلكاته الخاضعة لنطاق سلطتها، ومنع أي مواطن أمريكي من التعامل معه.
وخلال العقد الفائت، وثّقت العديد من منظمات حقوق الإنسان الدولية، انتهاكات مارستها "هيئة تحرير الشام" ضد المدنيين، تشمل الهجمات العشوائية، والاعتقالات التعسفية، والتعذيب، وعمليات التصفية.
وخلال عام 2024، انتشرت مقاطع فيديو كثيرة توثق قمع "هيئة تحرير الشام" احتجاجات سلمية خرجت في إدلب ضد حكم الهيئة وزعيمها، ويوثق نشطاء ما يقولون إنها انتهاكات للتنظيم في مناطق سيطرته بالشمال السوري، والتي تشمل خطف واعتقال محامين وكتّاب وصحفيين، وسوء معاملة السجناء، واعتداء على المتظاهرين.
وعند دخولها حلب كان من اللافت، أن الهيئة، على خلاف نهجها السابق، تبنّت شعارات المعارضة السورية المدنية، سواء باعتماد علم الاستقلال السوري كراية لها، أو بالرموز على الزي الرسمي لعناصرها، لكن وبعد أيام قليلة باتت تظهر النوايا الحقيقية وأن ما تبديه من مرونة ورغبة في التغيير ليس إلا خدعة تسعى من خلالها إلى تقديم نفسها كطرف مقبول من المجتمع الدولي والقوى الإقليمي، ومن ناحية أخرى كسب ود وثقة المجتمع السوري المتنوع بأطيافه الدينية والمذهبية والعرقية.
مجازر مروعة تفضح النوايا
بعد مرور أقل من شهرين على استلامها السلطة في سوريا ارتكبت سلطات الأمن العام السورية التابعة لسلطة أحمد الشرع الجولاني المجازر الوحشية كتلك المجزرة التي وقعت مؤخراً بحق الشيعة في قرية الغور الغربية بمدينة ريف حمص وسط سوريا.
وفي التفاصيل دخل رتل تابع لهيئة الأمن العام السورية التابعة لحكومة دمشق إلى قرية الغور الغربية في ريف حمص، تلاه دخول رتل آخر في الساعة التاسعة صباحًا من يوم الثلاثاء.
تضمن الرتل الأول دبابات، عربات مدرعة، رشاشات، وأسلحة ثقيلة عيار 23. بدأت عناصر الهيئة عمليات إطلاق نار عشوائي تجاه المنازل وفي الهواء بهدف ترهيب السكان، حسب شهود عيان، كما استهدفت المجموعات المسلحة المدارس، حيث أطلقوا الرصاص في الهواء ما أجبر الطلاب على الفرار من المدرسة دون إجراء الامتحانات.
فيما أُعلن أنها حملة أمنية، حيث استقبل الأهالي القوات دون مقاومة، وبدأت عمليات اقتحام المنازل وتكسيرها، وتعرضت الممتلكات للتدمير، إضافة إلى إهانات طائفية موجهة ضد الأهالي، في وسط هذه الفوضى، تعرض أحد الشباب، وهو شرطي متقاعد يُدعى “أحمد مرعي جردو”، للقتل بعد أن كان قد قام بالتسوية مع الجهات الأمنية سابقًا.
تم اعتقال جميع شباب القرية تقريبًا، حيث تعرضوا للإهانة والسحل والضرب والتعذيب الوحشي، وعند اعتراض بعض الأهالي على عمليات التعذيب ضد كبار السن، تم قتلهم أيضًا، وتم منع الأهالي من تقديم الإسعافات للمصابين، وأُطلقت النار على العديد من شباب القرية، في جريمة ترقى إلى جرائم الحرب، كما تم منع دفن الشهداء أو تشييعهم، وأُبلغ الأهالي أنه يُسمح فقط لعدد قليل من ذوي الضحايا بدفنهم في اليوم التالي.
ولا يزال عدد المعتقلين وأسماؤهم قيد التوثيق، نظرًا للوضع الأمني المتدهور في المنطقة، كما تم تفعيل إجراءات قمعية ضد كل شخص كان يحمل جهاز جوال يحتوي على أي صورة تشير إلى انتمائه الديني حيث تم اعتبار ذلك جرائم تستوجب الاعتقال والتصفية.
تُظهر الحملات الإجرامية هذه بشكل واضح استهدافًا متعمدًا للأقليات الشيعية في المنطقة، ويُعتقد أن هذا الهجوم جزء من محاولة لفرض تهجير قسري وتغيير ديمغرافي في ريف حمص، وتجدر الإشارة إلى أن أهالي القرية كانوا قد تقدموا بطلبات تسوية مع السلطات مسبقًا، ولم يكن هناك أي سلاح ضمن القرية.
أين هم المصفقون
من المثير للاستغراب والدهشة أن العالم الذي كان يومًا ينادي بحقوق الإنسان في سوريا ويصرخ بضرورة إنقاذ الشعب السوري من بطش النظام السابق، يقف اليوم صامتًا أو مكتوف الأيدي أمام الجرائم المروعة التي ترتكبها "هيئة تحرير الشام" ضد الأقليات الدينية والعرقية في البلاد، أين تلك الأصوات التي طالبت بالعدالة والمساواة وحقوق الإنسان؟ وكيف يمكن لهذا الصمت الدولي أن يُفسر في ظل ما يجري من استهداف متعمد وتطهير طائفي ضد فئات لطالما كانت جزءًا من النسيج الاجتماعي السوري؟
إن هيئة تحرير الشام، تحت قيادة أحمد الشرع، لم تترك وسيلة للقمع إلا واستخدمتها ضد الأقليات، بدءًا من تهجير السكان قسرًا، ومصادرة الممتلكات، وفرض قيود على الحريات الدينية، وصولًا إلى تنفيذ عمليات إعدام ميداني وقتل جماعي تحت ذرائع طائفية، ومع ذلك، لا تزال المنظمات الدولية والدول الكبرى تتعامل مع هذه الجرائم بتجاهل مُريب، وكأن معاناة هذه الفئات أصبحت خارج نطاق الاهتمام أو أولويات المجتمع الدولي.
المفارقة هنا أن الجهات التي كانت تدّعي الوقوف إلى جانب الشعب السوري لتحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان، تغض الطرف الآن عن واحدة من أسوأ موجات القمع الطائفي في تاريخ البلاد، يبدو أن خطاب الحقوق والعدالة الذي كان يعلو قبل سقوط النظام السابق قد أصبح مجرد شعارات فارغة عندما تعلق الأمر بانتهاكات تُرتكب من قبل أطراف أخرى، وخاصة عندما تكون هذه الأطراف تقدم نفسها على أنها معارضة.
إن هذا الصمت الدولي لا يُفسر فقط بأنه تقاعس، بل قد يُفهم كضوء أخضر لاستمرار هذه الجرائم، ما يُفاقم معاناة الأقليات ويضع مستقبلها في مهب الريح، إذا استمر هذا التجاهل، فإن ذلك يعني أن القيم العالمية لحقوق الإنسان ليست سوى أدوات انتقائية تُستخدم لتحقيق مصالح سياسية، تاركة الضحايا لمصيرهم المأساوي دون أي أمل في الإنصاف أو العدالة.