الوقت - في السادس والعشرين من يناير 2025، وبعد ما يقارب خمسة عشر شهراً من الحرب المستعرة والإبادة الممنهجة التي مارسها الكيان الصهيوني ضد أهالي غزة العُزّل، ورغم الدعم العسكري واللوجستي غير المسبوق من القوى العظمى وتوظيف أحدث المنظومات التسليحية في العالم، رضخ الكيان أخيراً لوقف إطلاق النار في مشهدٍ يجسّد انكساراً مدوياً لأحلامه التوسعية، لتختتم بذلك أكثر حروب القرن الحادي والعشرين دمويةً بانتصار مؤزر للمقاومة الفلسطينية.
تنصّ بنود اتفاقية وقف إطلاق النار على التزام الكيان الصهيوني، في مرحلتها الأولى، بإطلاق سراح آلاف المناضلين الفلسطينيين مقابل تحرير عدد من أسراه، تليها مرحلة الانسحاب الشامل من القطاع وإنهاء العمليات العسكرية بشكل كامل.
يأتي هذا الاتفاق التاريخي ليؤكد إخفاق الكيان الذريع، إذ لم يحصد سوى الخراب الذي ألحقه بغزة وإزهاق أرواح الآلاف من المدنيين الأبرياء، فضلاً عن استشهاد بعض قيادات حماس الذين سرعان ما تم استخلافهم. أما على الصعيد الدولي، فقد تكبد الكيان خسائر فادحة تمثلت في عزلة دبلوماسية غير مسبوقة، وإدانات قانونية متتالية من المجتمع الدولي. ولم تقتصر تداعيات هذا الإخفاق على المستوى الرسمي فحسب، بل امتدت لتطال المستوطنين في الخارج، الذين باتوا - بحسب شهاداتهم - مضطرين للتنكر وإخفاء هوياتهم الحقيقية، تجنباً لردود الفعل الشعبية المناهضة في المجتمعات الأجنبية.
أهداف الكيان الصهيوني في حرب غزة والحقائق الميدانية
في أعقاب الضربة الاستراتيجية المزلزلة التي تلقاها الكيان الصهيوني في السابع من أكتوبر، وفي ظل الصدمة العميقة التي خلّفتها العملية النوعية للمقاومة الفلسطينية، سارع قادة الكيان - مستندين إلى الدعم الأمريكي اللامحدود مالياً وعسكرياً - إلى محاولة ترميم صورتهم المهزوزة عبر إطلاق سلسلة من التهديدات المدوية ضد قطاع غزة. وقد تمحورت الخطابات التصعيدية لرئيس الوزراء الصهيوني ووزير حربه وقياداته العسكرية حول ركائز أساسية، كشف الواقع لاحقاً عن هشاشتها.
الركيزة الأولى تجلت في الوعود المتكررة باستعادة الأسرى الصهاينة سريعاً. بيد أن شهوراً من العمليات المكثفة وتوظيف أحدث المنظومات الاستخباراتية والأقمار الصناعية المتطورة باءت بالفشل الذريع، مما أجبر قيادة الكيان على الانصياع لمنطق التفاوض، وقبول صفقة تبادل الأسرى مع المقاومة.
وعقب انقضاء الهدنة المؤقتة واستئناف العدوان حتى إعلان وقف إطلاق النار النهائي، لم يكتفِ جيش الاحتلال بالفشل في تحديد مواقع أسراه، بل تسبب قصفه العشوائي في تصفية عدد كبير منهم، ولم يفلح سوى في انتشال عدد محدود منهم على قيد الحياة. وفي نهاية المطاف، اضطرت حكومة الكيان، مرغمةً، إلى قبول وقف إطلاق النار وإنهاء حربها العدوانية بغية استعادة من تبقى من أسراها، أو استلام جثامين من قضوا تحت نيران طائراتها.
أما الركيزة الثانية في الخطاب التهديدي الصهيوني، فتمثلت في مزاعم القضاء على المقاومة الفلسطينية والسيطرة الكاملة على قطاع غزة - وهو ما تحول اليوم إلى مادةٍ للتندُّر على المستوى الدولي، إذ وجد الكيان نفسه مضطراً للجلوس إلى طاولة المفاوضات، والتحاور مع قوى المقاومة ذاتها التي توعد باستئصالها.
ليس في قاموس الذل والانكسار أشدّ وقعاً على قادة الكيان الصهيوني، من مشهد جلوسهم للتفاوض مع من كانوا بالأمس القريب يتبجحون باستئصال شأفتهم. فها هم اليوم، وتحت وطأة العجز الميداني المذل، يرضخون صاغرين لشروط المقاومة، ويمنحونها امتيازات لم تكن في حسبانهم.
وفي مشهد يعكس عمق الإخفاق الاستراتيجي، ظلّ حلم السيطرة على غزة - ذلك الهدف المعلن بتبجح - سراباً يطارد مخيلة قادة الكيان. فرغم تدميرهم ما يناهز تسعين بالمائة من القطاع عبر هجمات همجية واستخدام ترسانة محرمة دولياً وقصف هستيري، عجزت آلتهم العسكرية عن مواجهة الانتشار المحكم لقوات المقاومة، التي سيطرت على زمام المبادرة من شمال القطاع إلى جنوبه. وحتى اللحظات الأخيرة قبل إعلان وقف إطلاق النار، ظلّ نزيف الخسائر البشرية والمادية يثخن في جسد جيش الاحتلال.
أما فيما يخص استهداف القيادات، فرغم نجاح آلة القتل الصهيونية - عبر الحصار والقصف الممنهج - في ارتقاء ثلة من القادة العسكريين شهداء وعلى رأسهم يحيى السنوار، إلا أن المقاومة الفلسطينية - وباعتراف المحللين الاستراتيجيين وحتى قادة الکيان أنفسهم - أبدعت في إعادة هيكلة بنيتها القيادية، وسدّ الثغرات التنظيمية دون انقطاع أو تلكؤ خلال المعركة. وقد تجلى هذا النجاح بوضوح - وفق الشهادات العبرية الميدانية - في استمرار تدفق العمليات العسكرية، وتماسك الجبهة الداخلية للمقاومة.
واليوم، مع طيّ صفحة هذا العدوان الغاشم، يقف الكيان الصهيوني أمام مرآة التاريخ عارياً من أي إنجاز حقيقي، سوى جريمة إبادة جماعية مروعة حصدت أرواح خمسين ألف مدني، بينهم آلاف الأطفال والنساء، وتدمير ممنهج طال معظم مناطق القطاع المحاصر.
حرب غزة وتداعياتها الكارثية على الكيان الصهيوني
تجلَّت حصيلة العدوان الصهيوني على غزة في "صفر" من الإنجازات، مقابل خسائر استراتيجية فادحة يستعصي تعويضها إلا بتوافر شرطين جوهريين: الأول، منح فسحة زمنية طويلة بمنأى عن أي تحديات خارجية، والثاني، ضخّ استثمارات مالية هائلة لترميم الأضرار البنيوية - وهما شرطان يستحيل على الكيان تحقيقهما في المرحلة الراهنة.
على الصعيد الدولي، قوَّضت حرب غزة سمعة الكيان وأفقدته مكانته في المحافل العالمية، وتُوِّج هذا الانهيار بقرار محكمة لاهاي التاريخي بتصنيف نتنياهو وغالانت كمجرمي حرب. كما أنهكت الحرب القدرات العسكرية للجيش الصهيوني بشكل غير مسبوق، مما يتطلب عقوداً لاستعادة جاهزيته.
وفي ضربة موجعة لأسطورة "الجيش الذي لا يُقهر"، تهاوت الهيبة العسكرية والأمنية للكيان عالمياً بعد الصدمة الاستخباراتية والهزيمة المذلة في السابع من أكتوبر. ثم جاء فشله - رغم ستة عشر شهراً من القتال الضاري والدعم الخارجي اللامحدود - في التغلب على تنظيم عسكري محدود، ليضطر في النهاية للرضوخ لشروط المقاومة والانسحاب من غزة.
وعلى المستوى الدبلوماسي، قوَّضت الحرب المساعي الصهيونية الحثيثة لتصوير فلسطين كأرض يهودية، وأصبح الرأي العام العالمي، بمختلف مشاربه وتوجهاته، يؤكد على الطبيعة الاحتلالية للكيان واغتصابه للحقوق الفلسطينية المشروعة، وأعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام الدولي، مع تصاعد المطالبات بإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
اقتصادياً، وجَّه العدوان ضربات قاصمة لاقتصاد الكيان، ويؤكد الخبراء الاقتصاديون، وخاصةً الصهاينة منهم، أن التداعيات الاقتصادية والمالية الحقيقية للحرب لم تتجلَّ بعد في كامل أبعادها، محذرين من تحديات اقتصادية أشدّ خطورةً في المرحلة التالية لوقف إطلاق النار.
کذلك، قوَّضت الحرب الصورة المثالية التي طالما روَّج لها الكيان عن الحياة الآمنة والرفاه الاقتصادي في الأراضي المحتلة. ووفقاً للمصادر العبرية الرسمية، أدت تداعيات الحرب إلى ظاهرة مزدوجة: انحسار موجات الهجرة إلى فلسطين المحتلة، وتسارع وتيرة الهجرة المعاكسة منها، مما دفع المؤسسات الصهيونية لإطلاق صيحات تحذير من خطورة هذا التحول الديموغرافي وتداعياته المستقبلية.
طوفان الأقصى: دماءٌ جديدة في عروق فلسطين ومقاومة غزة تنتصر في معركة الإرادات
في فجر السابع من أكتوبر 2023، كتبت المقاومة الفلسطينية ملحمةً تاريخيةً غيَّرت وجه المنطقة برمتها. فعملية "طوفان الأقصى" لم تكن مجرد عملية عسكرية فحسب، بل كانت نقطة تحول استراتيجي أعادت تشكيل المعادلات الجيوسياسية في قلب العالم العربي.
في تلك اللحظة الفارقة، تلقى الكيان الصهيوني - الذي طالما تباهى بتفوقه العسكري والأمني المطلق - صفعةً مدويةً زلزلت أركانه. فالعملية النوعية التي أذهلت الخبراء العسكريين والاستراتيجيين في شتى أنحاء العالم، أثبتت أن إرادة المقاومة قادرة على اختراق أعتى المنظومات الأمنية وأكثرها تطوراً.
أعادت هذه العملية الفذة، التي استوفت كل معايير التفوق العسكري، القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد العالمي، مؤكدةً أن احتلال فلسطين ليس مجرد حدثٍ تاريخي يمكن طيُّه في سجلات الماضي، بل هو جرحٌ نازف يأبى الاندمال. فحركات المقاومة ما زالت تواصل نضالها البطولي، مستلهمةً من عدالة قضيتها قوةً لا تنضب.
في أعقاب الصدمة الاستراتيجية التي تلقاها الكيان، هرعت القوى الغربية لنجدته، ليشنّ - بدعمٍ أمريكي سافر - حملةً وحشيةً على غزة. وبعد أسابيع من القصف الهمجي الذي حصد أرواح الآلاف من المدنيين الأبرياء، انطلق العدوان البري بمشاركة قوات أجنبية، على رأسها القوات الأمريكية.
ورغم التهديدات المتغطرسة لقادة الكيان والدعم الغربي غير المحدود وتنبؤات المحللين بسحق المقاومة خلال أسابيع معدودة، صمدت غزة ستة عشر شهراً من الحرب الشاملة. وفي النهاية، وتحت وطأة الخسائر البشرية والمادية الفادحة، والاحتجاجات الداخلية المتصاعدة، والضغوط الدولية المتزايدة، رضخ الكيان لشروط المقاومة لتحرير الأسرى وإنهاء الحرب.
وفي مشهدٍ تاريخي مغاير لكل التوقعات والتحليلات، كتبت المقاومة الفلسطينية في غزة ملحمةً استثنائيةً أذهلت العالم. فمع اشتعال المعركة البرية، تجلَّت حقائق ميدانية صادمة أجبرت حتى أعتى المحللين والخبراء الصهاينة على الاعتراف بقدرة المقاومة الفائقة وإمكاناتها المذهلة في التكيُّف والتجدد، مؤكدين حقيقةً باتت راسخةً، ألا وهي استحالة القضاء على حماس.
وفي شهادةٍ مدوية، أطلق الجنرال الصهيوني البارز إسحاق بريك اعترافاً صادماً حين قال: "المسافة بيننا وبين هدف القضاء على قوات المقاومة في غزة، تعادل المسافة بين الشرق والغرب". وفي ذات السياق، کتب يائير أسولين في صحيفة "هآرتس" العبرية عبارته التي هزَّت أركان الكيان: "حتى لو احتللنا الشرق الأوسط بأكمله، فلن ننتصر على غزة".
هذه الاعترافات المُرَّة من قِبَل الصهاينة حول قوة المقاومة وصلابتها، وانهيار كل التوقعات والتحليلات بشأن مسار الحرب ونتائجها، وصولاً إلى رضوخ الكيان الصهيوني لوقف إطلاق النار مع المقاومة الفلسطينية، تؤكد حقيقةً ناصعةً: إرادة الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة انتصرت بمفردها على الآلة العسكرية الصهيونية، وكل الدعم العسكري والمالي الذي حشدته القوى العالمية لنصرة الكيان.