الوقت- فيما نرى كل يوم المئات من الأوربيون الذين ينظرون و يقيمون المحاضرات الرنانة عن حقوق الإنسان والوضع الإنساني في منطقتنا على أن حقوق الإنسان في الدول الغربية هي نموذج حيتذى به لكن مع بدء حرب الإبادة الإجرامية على سكان غزة تغير كل شيء و انكشف الستار فظهرت الوجوه على حقيقتها ففقدت الدول الغربية، راعية نشر ثقافة حقوق الإنسان والدفاع عنها، مصداقيتها.
هكذا، كشفت الحرب على غزة مرة أخرى زيف الادعاءات التي تزعم أن منظومة حقوق الإنسان العالمية تستند إلى قيم أخلاقية خالصة. بل تؤكد الوقائع أن هذه المنظومة، كما يتبناها الغرب، مبنية على معايير انتقائية وازدواجية صارخة، حيث تُستخدم حقوق الإنسان كورقة ضغط ومساومة تُشهَر في وجه الأنظمة التي تناهض المصالح الغربية، بينما يتم التغاضي عن الجرائم التي يرتكبها الحلفاء أو تلك التي تضر شعوبا لا تتوافق مع أجنداتهم.
تتجلّى هذه الحقيقة بشكل ساطع في التباين الصارخ بين سرعة استجابة المجتمع الدولي لما يُشتبه بأنها جرائم حرب ارتكبتها روسيا في أوكرانيا، وبين التجاهل المُخزي للجرائم البشعة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة. هذه الازدواجية لا تعبّر فقط عن انعدام العدالة، بل تُمثل إهانة لكل القيم التي يُفترض أن تشكل حجر الأساس لمنظومة حقوق الإنسان. إنها منظومة تُدار بمعايير القوة والمصلحة، لا بالعدالة أو الإنصاف.
مأساة للإنسانية
إن الحرب التي راح ضحيتها أكثر من 156 شخص بين شهيد وجريح، لا يمكن وصفها إلا بأنها مأساة إنسانية غير مسبوقة. والحرب التي أدت إلى تهجير قسري لما يزيد عن مليوني إنسان مدني من منازلهم في شمال قطاع غزة إلى مناطق تفتقر إلى الأمان وأبسط مقومات الحياة، لا يمكن أن يُبررها أي ادعاء بأنها دفاع مشروع عن النفس.
إن هذه الجرائم المروعة والانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان ليست سوى ترجمة واضحة لجرائم حرب، وفقاً لما ينص عليه نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. إنها شهادة دامغة على الاستهانة المطلقة بالحياة البشرية وتحدٍ صارخ للقوانين الدولية التي تهدف إلى حماية أرواح المدنيين في زمن الحرب وكل هذه الجرائم ماكان لها ان تقع لولا كان لدى الغرب ضمير يتحرك أو إنسانية تنهض .
هدر للانسانية وحقوقها
لم يترك الاحتلال الإسرائيلي جريمة واحدة إلا وأثقل بها كاهل الإنسانية، وكأن يد الظلم لا تعرف شبعا ولا توقفا. فكل ما نصّت عليه القوانين والمواثيق الدولية، من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية إلى اتفاقيات جنيف الأربع، وكل عرف أخلاقي أو قانوني سطره التاريخ، حُطم وسُحق تحت أقدام آلة الحرب الإسرائيلية. إبادة جماعية، جرائم ضد الإنسانية، تهجير قسري، قصف مستشفيات ومساجد، تدمير مصادر الحياة من ماء وكهرباء، وقصف "مناطق آمنة" لم تكن سوى أوهام نسجها الاحتلال ليغتال الأمل ذاته.
أمام هذه الجرائم، يقف العالم بأسره متجمدا، عاجزا عن ردع الظلم الذي يصرخ عاليا، بينما يتغطى المحتل بذرائع كاذبة مثل "الحرب العادلة" و"الدفاع عن النفس". ومع كل قذيفة تسقط على غزة، لا تسقط الأرواح فحسب، بل تنهار أيضا المبادئ الإنسانية والقوانين الدولية التي يفترض أنها وجدت لحماية البشر. هذه ليست حربا على الأرض فقط؛ إنها حرب على قيمة الإنسان ذاته، على حقه في الحياة، على جوهر العدالة الذي يُفترض أن يحكم عالمنا.
إن ما يحدث في غزة ليس مجرد انتهاك للحقوق، بل هو تمزيق متعمد وممنهج لها. إنه إعلان وقح بأن الفلسطينيين قد جُردوا من إنسانيتهم، وأن وجودهم أصبح مجرد تفصيل يمكن محوه. كل قذيفة توجه نحو طفل، كل مستشفى تُدمر، كل سيارة إسعاف تُستهدف، هو تأكيد على أن الاحتلال لا يكتفي بقتل الأجساد، بل يسعى لقتل الروح، الأمل، والحياة بأكملها. إنها مأساة مكتوبة بدماء الأبرياء، وصمت العالم يزيد من عمق الجرح.
حقوق الانسان حسب العقلية الأوروبية
شعارات حقوق الإنسان التي يتغنى بها الغرب ليست سوى كلمات جوفاء، تنطق بها أفواه القادة في المؤتمرات الفاخرة، بينما يئن الأبرياء تحت وطأة القصف والجوع والتهجير. إنها شعارات تبدو براقة على الورق، لكنها تنكسر أمام الحقيقة القاسية: حقوق الإنسان ليست حقاً للجميع في نظرهم، بل امتياز يُمنح لمن يخدم أجنداتهم ويُحجب عن الآخرين.
كيف يمكن لعالم يزعم احترام الكرامة الإنسانية أن يغض الطرف عن دماء الأطفال في غزة، عن صرخات الأمهات في العراق عندما أدخلوا داعش ودعموه، وعن أنين السوريين عندما تآمروا عليهم ليجعلوا منه بلداً لاحول له وقوة تحكمه مجموعات متطرفة ؟ كيف يمكن لمن يدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان أن يمول الحروب، ويزوّد الطغاة بالسلاح، ويغض النظر عن الجرائم الفادحة التي تُرتكب يومياً بحق الأبرياء؟
الغرب الذي يدّعي بأنه راعي القيم الإنسانية هو نفسه الذي فتح خزائنه وجيوشه لتدمير الشرق الأوسط. هل كانت حقوق الإنسان في حسبانه حينما اجتاحت القوات الأمريكية العراق ودمّرت دولة بأكملها تحت ذريعة كاذبة؟ هل فكروا في مصير ملايين العراقيين الذين فقدوا حياتهم أو شُرّدوا أو عاشوا تحت رحمة الفقر والانقسام الطائفي؟
وهل كانت حقوق الإنسان على قائمة الأولويات عندما أُغرقت اليمن في بحر من الدماء، أو حينما دُمرت سوريا بفعل التدخلات التي تكالبت عليها ؟ أو عندما قُتل عشرات الآلاف من الأبرياء في غزة، بينما تُبرر الجرائم المروعة بأنها "دفاع عن النفس"؟
الغرب الذي يتحدث عن حقوق الإنسان هو نفسه الذي يصف المقاومة بأنها إرهاب، ويبرر للظالم جرائمه ويعطيه الشرعية الدولية. هو الذي يمد الاحتلال الإسرائيلي بالأسلحة والقنابل التي تسقط على رؤوس الأبرياء، ثم يدّعي أنه وسيط سلام. إن حقوق الإنسان في قاموس الغرب ليست سوى ذريعة للضغط على الدول التي ترفض الخضوع لهم، وشماعة للتدخل في شؤونها، بينما يلوذ بالصمت عندما يتعلق الأمر بحلفائه، مهما بلغت جرائمهم من بشاعة.
إن من يتحدث عن حقوق الإنسان بصدق لا يمكن أن يدير ظهره لصورة طفل يبحث عن عائلته بين الركام، أو لأم تجثو فوق جسد صغير بلا روح. إن حقوق الإنسان ليست شعارات تُرفع في المؤتمرات، بل مسؤولية أخلاقية تستوجب الوقوف مع المظلومين، بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو جنسيتهم. ولكن الغرب، للأسف، قد اختار أن يبيع هذه المسؤولية في سوق المصالح، وأن يتاجر بالدماء تحت غطاء الشعارات البراقة.
إن ازدواجية المعايير هذه ليست مجرد مسألة سياسية، بل هي خيانة للإنسانية جمعاء. إنها تُثبت أن العالم الذي يدّعي الحضارة قد تخلى عن جوهر الأخلاق، وأن حقوق الإنسان التي يتفاخر بها الغرب ما هي إلا قناع يخفي خلفه وجهاً بارداً لا يعرف الرحمة.