الوقت - في خضم التحليلات التي تتوالى من كبريات المنابر الإعلامية الغربية والأمريكية، والتي تسلط الضوء على الإخفاق الاستراتيجي للكيان الصهيوني في تحقيق أهدافه العسكرية على الساحتين الفلسطينية واللبنانية، برز تحليل نشرته صحيفة "لوس أنجلوس تايمز” الأمريكية.
التحليل، الذي حمل توقيع الخبير البارز "كولين كلارك" - رئيس القسم البحثي في مجموعة "صوفان" للدراسات (وهي مؤسسة بحثية مستقلة تُعنى بتحليل وتفكيك المعضلات الأمنية العالمية) - قدّم قراءةً استشرافيةً لتداعيات السياسات العسكرية الإسرائيلية الراهنة.
ذهب التحليل إلى أن استراتيجية الأرض المحروقة التي يتبناها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة والجنوب اللبناني، ستنقلب عليه بشكل عكسي، مشكّلةً تهديداً وجودياً يُلقي بظلاله القاتمة على مستقبل الكيان الصهيوني في المنطقة.
فشل الكيان الصهيوني في رهانه على سياسة الأرض المحروقة في لبنان وغزة
يكشف التحليل كيف انزلق الكيان الصهيوني، منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، إلى مستنقع حربي متشعب الجبهات، متعدد المحاور، فارضاً عليه خوض معركة وجودية غير محسوبة العواقب.
فعلى مدار خمسة عشر شهراً من المواجهة المحتدمة، وجدت القوات الصهيونية وأذرعها الاستخباراتية نفسها في صدام مباشر مع قوتين محوريتين من أعمدة محور المقاومة: حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني.
وفي محاولة يائسة لقلب موازين القوى، لجأ الكيان الصهيوني إلى عملياته الاستخباراتية الإرهابية، كالتفجيرات الهادفة، حيث تمكن من تصفية عدد من مجاهدي حزب الله، مُلحِقاً أضراراً جسيمةً طالت آلافاً من المدنيين اللبنانيين، وقد تمحورت استراتيجيته حول سياسة الاغتيالات، والتي بلغت ذروتها في استهداف السيد حسن نصر الله، الأمين العام السابق لحزب الله، عبر غارة جوية غادرة على العاصمة اللبنانية بيروت.
لماذا يستحيل على الكيان الصهيوني اجتثاث حماس وحزب الله؟
تكشف صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" عن المأزق الوجودي الذي يواجه الكيان الصهيوني، فرغم مزاعم جيش الاحتلال عن تصفية ما يناهز سبعة عشر ألفاً من مقاتلي حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، واستهداف اثنتين وعشرين كتيبة من كتائبها الأربع والعشرين، إلا أن هذه الإحصائيات - حتى على فرض صحتها - لا تُفضي إلى تحقيق الهدف المنشود في القضاء على الحركة.
وتؤكد الدراسات الأكاديمية المعمقة والشواهد الميدانية الموثقة، في تقييمها لفاعلية الضربات المركزة ضد القيادات العسكرية والسياسية لحركتي المقاومة، أن كلاً من حماس وحزب الله - حتى في أحلك الظروف وأشدّها قسوةً - يواصلان مسيرتهما النضالية بعزيمة لا تلين، مع احتفاظهما بقدرة استثنائية على تجديد صفوفهما وإعادة بناء هياكلهما التنظيمية.
وتشدد الصحيفة الأمريكية على حقيقة جوهرية مفادها بأن استحالة تصفية هاتين الحركتين، تنبع من طبيعتهما الفريدة التي تتجاوز بمراحل مفهوم التنظيمات المسلحة التقليدية، فهما تمتلكان استراتيجيةً وطنيةً راسخةً وتحظيان بحاضنة شعبية عميقة الجذور، ذلك أن كوادرهما وعناصرهما يشكّلون جزءاً أصيلاً من النسيج المجتمعي اللبناني والفلسطيني، وتستند حركتهما إلى حقائق تاريخية ووقائع ميدانية راسخة، تشكّل المنطلق الأساسي لنضالهما المشروع.
تتجلى حقيقة جوهرية مفادها بأن حركتي المقاومة - حماس وحزب الله - تمتلكان قدرةً استثنائيةً على تجديد صفوفهما بكوادر محلية، يتأجج في قلوبها لهيب النضال ضد المحتل الصهيوني، وخاصةً في أعقاب الدمار الممنهج والمآسي الإنسانية الفادحة التي خلّفتها الآلة العسكرية الإسرائيلية في غزة ولبنان.
وتنجح الحركتان، عبر مسيرتهما التاريخية، في غرس الوعي العقائدي والروح الجهادية في نفوس الأجيال المتعاقبة، ما يجعل سياسة الاغتيالات الصهيونية تنقلب على أصحابها، مُفرزةً أجيالاً جديدةً أكثر صلابةً وتصميماً على الثأر والمقاومة.
ويؤكد التحليل أن الحركتين تشكّلان نسيجاً عضوياً متجذراً في المجتمعين الغزي واللبناني، فحزب الله، من خلال منظومته الخدماتية المتكاملة - تعليمياً وصحياً واجتماعياً - في الجنوب اللبناني، يُعمق التحامه بالحاضنة الشعبية، في حين أن سياسة الأرض المحروقة التي ينتهجها الكيان الصهيوني في غزة، والتي أفضت إلى إبادة جماعية وتدمير ممنهج للبنية التحتية، تتحول إلى وقود يؤجّج روح المقاومة، ويدفع أفواجاً جديدةً للانخراط في صفوف حماس.
وفي هذا السياق، يأتي تصريح "يعقوب بيري"، الرئيس السابق لجهاز الشاباك الصهيوني، ليؤكد أن الكيان سيجد نفسه، خلال السنوات الأربع أو الخمس القادمة، في مواجهة حتمية مع جيل غزّي جديد، صقلته المجازر والعدوان.
ويختتم المحلل "ستيفن كوك" المشهد بتأكيده، عقب اغتيال يحيى السنوار، على استحالة اجتثاث نهج المقاومة، مشيراً إلى أن أتباع السنوار سيواصلون دربه بعزيمة أشدّ وإرادة أقوى.
أهداف نتنياهو الحربية: سراب في أفق مسدود
يكشف کاتب المقال "كولين كلارك" عن الوهم الكبير الذي يعيشه بنيامين نتنياهو وقيادات الكيان الصهيوني في خطابهم المتشدق بـ"النصر الحاسم" في غزة، فخلف ستار التصريحات المتعالية والوعود الفارغة، تتجلى حقيقة صارخة: أن الأهداف المعلنة للكيان، ليست سوى سراب في صحراء الوهم.
ويؤكد المحلل أن المفارقة المثيرة تكمن في أن مساعي الكيان المحموم لتحقيق "النصر الشامل" في ساحتي غزة ولبنان، هي بالذات ما يضمن استمرارية وديمومة حركتي المقاومة - حماس وحزب الله، فالواقع الاستراتيجي يكشف أن القيادة الصهيونية، على مدار عقود، تبنت مقاربات غير متكافئة بالمطلق لمعضلتها الوجودية، ما أفضى إلى تآكل شرعيتها وتقويض صورتها في الوعي العالمي.
ويختتم التحليل بملاحظة جوهرية: منذ اندلاع المواجهة المصيرية في الساحتين اللبنانية والفلسطينية، أخفق نتنياهو إخفاقاً ذريعاً في بلورة رؤية سياسية متماسكة، مكتفياً بالرهان الأحادي على القوة العسكرية الغاشمة، متجاهلاً تماماً ضرورات الحل السياسي، وعليه، فإن الأجيال الصهيونية القادمة ستجد نفسها محكومةً بالمصير ذاته المظلم، دوامة حرب أبدية لا نهاية لها في الأفق المنظور.