الوقت - مثَّل انهيار نظام بشار الأسد في سوريا، تحوُّلاً استراتيجياً جوهرياً في المشهد الجيوسياسي لمنطقة غرب آسيا، ويُلقي هذا المنعطف التاريخي بظلاله على المعادلات الإقليمية، مُفرزاً تداعيات عميقة الأثر على شتى الدول، ولا سيما في النطاق الجغرافي لشمال القارة الأفريقية.
وتتجلى هذه التداعيات في منظومة متشابكة من الأبعاد السياسية والاقتصادية والأمنية والمجتمعية؛ ما يستدعي تحليلاً دقيقاً وقراءةً متأنيةً للمشهد الجديد الذي أفرزته ديناميكيات القوى المعارضة المسلحة على الساحة السورية، وفي ضوء ذلك، يتناول هذا التحليل رصداً شاملاً لانعكاسات التحولات السورية على المنظومة الإقليمية في شمال أفريقيا.
عقب بسط الجماعات المسلحة المنضوية تحت لواء هيئة تحرير الشام سيطرتها، وما تبع ذلك من سقوط نظام بشار الأسد، تصاعدت المخاوف لدى دول شمال أفريقيا إزاء تداعيات هذا التحول المفصلي، وتتمحور الهواجس الرئيسية لهذه الدول حول الآتي:
1. الأزمات السياسية في البلدان الأفريقية
يُشكل انهيار منظومة الحكم في سوريا تحت قيادة بشار الأسد، منعطفاً استراتيجياً ذا أبعاد جيوسياسية عميقة، تلقي بظلالها على المشهد السياسي في دول الشمال الأفريقي، ويُمكن لهذا التحول المفصلي أن يتبلور كنموذج محفز لإعادة تشكيل المعادلات السياسية في المنطقة العربية بأسرها.
وبقراءة أكثر دقةً للمشهد، فإن الديناميكيات المتسارعة على الساحة السورية قد تُشكل عاملاً محفزاً للقوى المعارضة في هذه الدول، ما قد يدفعها نحو تصعيد مطالبها بإحداث تحولات جوهرية وإصلاحات هيكلية في بنية أنظمتها السياسية.
وفي سياق هذه التطورات، يكتسب اللقاء رفيع المستوى الذي عقده الرئيس المصري مع كبار قادة المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية في الخامس عشر من ديسمبر 2024، أهميةً بالغةً في قراءة المشهد، حيث يُمثل هذا الاجتماع استعراضاً للقدرات المؤسسية، وإشارةً واضحة الدلالات للتيارات الإخوانية والرأي العام، مفادها بأن المؤسسة العسكرية المصرية، بكامل ثقلها، تقف خلف القيادة السياسية، وأن أي محاولة لزعزعة الاستقرار ستُواجَه بحسم.
2. عودة العناصر الإرهابية الأفريقية من سوريا
في خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي يشهدها المشهد السوري في حقبة ما بعد الأسد، تتصدر إشكالية بالغة الخطورة المشهد الأمني الإقليمي، تتمحور حول المصير المجهول لآلاف العناصر المتطرفة من أصول أفريقية، الذين أُطلق سراحهم من المراکز العقابية السورية.
فقد اتخذت القوى المعارضة المسلحة قراراً غير مدروس بإطلاق سراح كل المعتقلين دون إجراء تقييم أمني شامل لملفاتهم وخلفياتهم الأيديولوجية - وهم الذين يتبنون فكراً متطرفاً يتجاوز في حدته موقفهم من حركات المقاومة كحماس، والتي يصنفونها خارج دائرة الإيمان وفق معتقداتهم المتشددة.
وتكمن الخطورة لهذا التطور في احتمالية عودة هذه العناصر إلى أوطانها الأصلية، محملين بخبرات قتالية متقدمة وأيديولوجيات متطرفة، ما قد يؤدي إلى تأسيس خلايا إرهابية نوعية تشكل تهديداً وجودياً للأمن القومي في دولهم، ويمثّل هذا التحدي معضلةً أمنيةً مركبةً، وخاصةً لدول الشمال الأفريقي التي تحمل في ذاكرتها الأمنية تجارب مريرة مع التهديدات الإرهابية.
وتقدم الحالة المغربية أنموذجاً تحليلياً لهذه الإشكالية، حيث تؤكد التقديرات الاستخباراتية انخراط ما يناهز 1659 عنصراً مغربياً في الصراع السوري منذ اندلاع أحداث 2011، وما بات يُعرف إعلامياً بـ"المغاربة السوريين" يتجاوز إطار المعتقلين السابقين، ليشمل عناصر فاعلة في المنظومة العسكرية للجماعات المسلحة، وقد تجلت خطورة هذا الواقع مؤخراً في مقطع مصور انتشر على منصات التواصل الاجتماعي المغربية، يُظهر أحد المقاتلين المغاربة بزيه العسكري يحتفي بما يصفه بالانتصار على النظام السوري.
إن ثلث المقاتلين المغاربة الموجودين في سوريا والعراق ينحدرون من المنطقة الشمالية الغربية للمغرب، وبالأخص من مدينة تطوان، ويُقدّر عدد الإرهابيين الذين جاؤوا من السواحل الساحلية لمدن تطوان ومعدق وفنيدق بحوالي 500 عنصر، وسبب قلق المسؤولين في الدول العربية والغربية من الأحداث الجارية في سوريا، هو احتمال عودة هؤلاء الإرهابيين المغاربة إلى مدنهم الرئيسية مرةً أخرى.
ووفقًا لبيانات المسؤولين الأمنيين في تونس، انضم 2929 إرهابيًا إلى بؤر التوتر في سوريا؛ ومن بينهم، قُتل البعض أو سُجن بعضهم الآخر، في حين اختار الآخرون العودة إلى أوطانهم.
تشترك تونس وليبيا في حدود برية بطول 459 كيلومترًا، تتضمن نوعين من المعابر الحدودية، وقد أكدت السلطات التونسية تعزيز الحضور الأمني والعسكري لقواتها، بعد حفر خندق واقٍ يمتد لحوالي 250 كيلومترًا على الحدود مع ليبيا، وذلك لضمان اعتقال وملاحقة أي إرهابيين مهاجرين من سوريا لدى دخولهم.
كما أن الآلاف من الإرهابيين قد وصلوا إلى سوريا من الجزائر وليبيا وموريتانيا، ورغم عدم توافر أرقام دقيقة حول هذا الأمر، إلا أن الأحداث الحالية في سوريا، بالإضافة إلى الإفراج عن بعض السجناء الأفارقة، قد تجعل من عودتهم المحتملة إلى دول شمال أفريقيا، خطرًا حقيقيًا وتحذيرًا جادًا لهذه البلدان.
3. إلغاء التعاون الاقتصادي والعسكري بين سوريا والدول الأفريقية
المحور الأول: تجميد المعاهدات السورية-التونسية
تُعدّ الاتفاقية التجارية المُبرمة في نيسان/أبريل 2004 حجر الزاوية في العلاقات الثنائية بين البلدين، إلا أن القطيعة الدبلوماسية مع دمشق في عام 2013 أفضت إلى تعليق الالتزامات المتبادلة.
وفي مطلع كانون الأول/ديسمبر 2023، شهدت العلاقات انفراجة مع تقديم السفير محمد المحمد أوراق اعتماده في تونس، حيث أبدى الجانبان عزمهما إحياء الاتفاقيات المشتركة السالفة، بيد أن صعود التيارات المسلحة في سوريا، أدى إلى تجميد المعاهدات القائمة بين الطرفين، ونظراً للحجم المحدود للتبادل الاقتصادي في عهد بشار الأسد، فإن التداعيات على الاقتصاد التونسي ستظل محدودة النطاق.
المحور الثاني: تقويض التعاون العسكري السوري-الليبي مع قوات حفتر
يُلقي سقوط نظام الأسد في التاسع من كانون الأول/ديسمبر 2024 بظلاله على المصالح الاستراتيجية للمشير خليفة حفتر في ليبيا، نظراً لعمق الشراكة العسكرية والتجارية التي نسجها الطرفان في الآونة الأخيرة، فقد شهد عام 2020 تدشين برنامج تدريبي متكامل لتأهيل الطيارين الليبيين في سوريا، تزامناً مع قيادة حفتر لعملياته العسكرية ضد حكومة الوفاق الوطني آنذاك للسيطرة على العاصمة طرابلس.
غير أن هذا البرنامج التدريبي قد تعثر جراء تصاعد حدة المواجهات وانهيار نظام الأسد، ولا سيما بعد سقوط قاعدة النيرب الجوية (مطار حلب الدولي) في الثالث من كانون الأول/ديسمبر 2024 بيد المعارضة السورية، والتي كانت تضم طائرتين من طراز "إل-39 ألباتروس" ليبيتين مخصصتين للتدريب العسكري.
4. تراجع الدعم لجبهة البوليساريو والصحراء الغربية
تُعد سوريا إحدى الدول العربية المحدودة - إلى جانب اليمن الجنوبي والجزائر وليبيا وموريتانيا (في حقبة سابقة) - التي تبنت موقفاً داعماً لجبهة البوليساريو منذ نشأتها في العقد السابع من القرن المنصرم، وقد بادر الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى إضفاء الشرعية الدبلوماسية على "الجمهورية العربية الصحراوية" مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وسار خلفه، بشار الأسد، على النهج ذاته، متمسكاً بثوابت السياسة السورية في دعم مطالب البوليساريو بالسيادة على أراضي الصحراء الغربية.
وفي السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2024، أشادت جبهة البوليساريو بالموقف الدبلوماسي الصارم الذي اتخذه المندوب السوري أمام اللجنة الرابعة التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، دفاعاً عن قضية الصحراء الغربية، وقد جاء في بيان المندوب السوري أن "سوريا لا تعتبر الأراضي الصحراوية جزءاً من السيادة المغربية".
وفي هذا المضمار، أدلى سعد الدين العثماني - القيادي البارز في حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي، ورئيس الوزراء الأسبق، ووزير الشؤون الخارجية السابق - بتصريحات مفادها بأن "الموقف السوري إزاء ملف الصحراء الغربية قد انحاز لمصلحة الانفصاليين الصحراويين (جبهة البوليساريو)، في حين تتبنى المعارضة السورية موقفاً واضحاً يحترم، دونما تحفظ، السيادة المغربية وحقوقها المشروعة".
وبناءً على المعطيات الراهنة، تشير التقديرات الاستراتيجية إلى أنه مع سقوط النظام السوري وتولي قوى المعارضة مقاليد الحكم، يُرتقب استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرباط ودمشق، بل قد تتجه سوريا الجديدة نحو الاعتراف الرسمي بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية.
5. انحسار النفوذ الروسي في القارة الأفريقية
المحور الأول: تآكل القوة الروسية الناعمة والصلبة
في ظل احتدام الصراع الروسي-الأوكراني وما صاحبه من استنزاف للقدرات العسكرية الروسية، تجلّت بوضوح محدودية قدرة موسكو على صون مصالح حلفائها الاستراتيجيين، ولا سيما في القارة الأفريقية، وقد عزز الانسحاب الروسي من سوريا، التصور المتنامي بشأن هشاشة القوة الروسية، وعقب التطورات المتسارعة في المشهد السوري وتضاؤل النفوذ الروسي، مع ترجيح انسحابها من قاعدة طرطوس البحرية الاستراتيجية، ستجد موسكو نفسها مضطرةً لإعادة تموضع ثقلها العسكري نحو قاعدة بنغازي البحرية في ليبيا.
المحور الثاني: تداعيات الانكفاء الروسي على الساحل الأفريقي
في ضوء المستجدات الجيوسياسية في سوريا والتراجع الروسي الملحوظ، يُتوقع أن تُعيد دول الساحل الأفريقي (بوركينا فاسو، النيجر، مالي) - التي شهدت تحولات سياسية جذرية وإنهاء الوجود العسكري الفرنسي-الأمريكي خلال الأعوام الأربعة المنصرمة مع تعاظم النفوذ العسكري الروسي - تقييم تحالفاتها الاستراتيجية، وقد يدفع هذا المشهد المجالس العسكرية الحاكمة في هذه الدول، نحو البحث عن شركاء استراتيجيين بدلاء.
المحور الثالث: إعادة هيكلة الاستراتيجية الروسية في أفريقيا
سيفرض سقوط نظام الأسد على موسكو، إعادة صياغة جذرية لاستراتيجيتها الإقليمية، فقد اعتمدت روسيا تاريخياً على محوري سوريا وليبيا كمراكز لوجستية محورية لنشر قدراتها العسكرية في منطقة الساحل الأفريقي، وكانت الأساطيل الروسية تتخذ من ميناء طرطوس محطةً رئيسيةً لتفريغ معداتها العسكرية قبل الرسو في ميناء طبرق شرق ليبيا، حيث يتولى فيلق أفريقيا (المعروف سابقاً بفاغنر) مهام استلامها وتأمين نقلها براً إلى دول الجوار.
الاستنتاج
يمكن استخلاص أن انهيار نظام الأسد سيُحدث تحولات جيوسياسية عميقة في شمال أفريقيا، تتفاوت انعكاساتها وفقاً للمعطيات الداخلية لكل دولة، وكفاءة إدارة قياداتها للمرحلة الانتقالية، غير أن الثابت الاستراتيجي يتمثل في ضرورة تبني دول شمال أفريقيا لمقاربة استباقية في التعامل مع التداعيات المرتقبة.