الوقت - في مشهدٍ لافتٍ للنظر، وبينما اكتفت غالبية الدول الإسلامية بإصدار بياناتٍ دبلوماسية محسوبة تُعبِّر عن القلق إزاء المستجدات وتدعو لاستتباب الأمن - متجنبةً أي دعمٍ صريحٍ للمسلحين - عقب سيطرتهم على العاصمة دمشق، برزت حكومة طالبان كأحد الأطراف القليلة في المنطقة التي سارعت، جنباً إلى جنب مع تركيا والكيان الصهيوني، للإعراب عن ابتهاجها بإسقاط نظام بشار الأسد وصعود هيئة تحرير الشام.
وقد تضمَّن البيان الصادر عن وزارة خارجية طالبان تعبيراً عن تطلعاتها نحو "تأسيس حكمٍ إسلامي مستقل يُولي الخدمات العامة اهتماماً بالغاً"، حيث جاء فيه: "إن العاصمة دمشق قد آلت الآن إلى أيدي أبناء سوريا تحت قيادة هيئة تحرير الشام، ونحن نتطلع إلى إدارةٍ حكيمةٍ للمراحل المقبلة، بما يُفضي إلى إرساء نظام حكمٍ يسوده السلام والوحدة والاستقرار".
يأتي هذا الموقف المتسارع في وقتٍ كانت وسائل الإعلام قد تداولت فيه سابقاً، مشاهد لراية طالبان وهي تُرفَع في أيدي المسلحين السوريين عقب سيطرتهم على مدينة حلب.
وفي هذا السياق، أجرى موقع "الوقت" التحليلي حواراً مع الخبير المتخصص في الشأن الأفغاني "السيد "إسماعيل باقري"، لتسليط الضوء على احتمالية وجود ترابطٍ عقائدي وتقاربٍ مفاهيمي في تفسير "الجهاد" و"السلفية"، بين حركة طالبان وهيئة تحرير الشام.
هيئة تحرير الشام ليست "طالبان ثانية"!
استهلَّ الخبير باقري حديثه بتأكيدٍ جوهري على ضرورة تقديم قراءةٍ موضوعية ودقيقة، للمزاعم المتداولة حول الروابط الأيديولوجية والسياسية بين حركة طالبان وهيئة تحرير الشام، حيث أوضح:
"من الأهمية بمكان أن نسلِّط الضوء على حقيقة ما جرى إبَّان هجوم المعارضة المسلحة، وتحديداً هيئة تحرير الشام، على مدينة حلب ذات الثقل الاقتصادي والأهمية الجيوسياسية، فقد شهدنا آنذاك تحركاً من قِبَل عناصر وأنصار طالبان، حيث أضفوا صبغة "الجهاد" على العمليات العسكرية التي شنتها المجموعات المسلحة ضد المناطق الخاضعة للحكومة المركزية، ما شكَّل نوعاً من الدعم المعنوي، كما برز بعض مؤيدي طالبان في تقديم التهاني والبشائر بالنصر، مع نشر محتوى إعلامي يستهدف رفع المعنويات.
بيد أن المنهجية العلمية تقتضي منا التريث في إصدار أحكامٍ قطعية حول وجود روابط راسخة بين طالبان وهيئة تحرير الشام استناداً إلى مجرد مقالٍ منفرد، أو رسالة تهنئة، أو بضع منشورات متفرقة، وعلى الرغم من وجود قدرٍ من الصحة في الملاحظات السابقة من زاوية معينة - إذ لا يمكن إنكار الدعم الذي قدمته عناصر من طالبان ومجلة "المرصاد" المرتبطة بالفكر الطالباني، ووصفهم للتنظيمات المسلحة كهيئة تحرير الشام وجبهة النصرة وغيرها بالجماعات "الجهادية" - إلا أنه من الضروري التنبيه إلى أن التضخيم الإعلامي الراهن لهذه المسألة، يندرج ضمن أجندات محددة وأهداف مرسومة سلفاً، وفي ضوء ما تقدم، نجد أنفسنا أمام روايتين رئيسيتين تستحقان التمحيص والدراسة المتأنية.
تطرح الرواية الأولى فرضيةً تستند إلى محورين رئيسيين: الأول يتعلق بوجود نسيجٍ متشابك من العلاقات - أيديولوجياً وسياسياً وعسكرياً - بين حركة طالبان وهيئة تحرير الشام، والثاني يشير إلى تموضع طالبان في المعسكر الداعم للهيئة، جنباً إلى جنب مع القوى الاستعمارية والإمبريالية، متمثلةً في الولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا والدول الخليجية، وصولاً إلى الكيان الصهيوني، وتذهب هذه الرواية إلى أبعد من ذلك، مؤكدةً تلقي عناصر إرهابية من هيئة تحرير الشام تدريباتٍ متخصصة على الأراضي الأفغانية، ليتم نقلهم لاحقاً عبر خطوط جوية مباشرة تربط كابول بكلٍ من أنقرة والدوحة، ومن ثَمَّ إلى الساحة السورية.
بيد أن التحليل الموضوعي والمنهجي لهذا الطرح، يقودنا إلى استنتاجٍ مفاده بأنه وإن كانت بعض جزئيات هذه الرواية قد تحمل قدراً من الصحة، إلا أنها تظل قاصرةً عن تقديم صورةٍ شاملة ودقيقة للواقع، وعليه، فإن محاولة تصنيف هيئة تحرير الشام كنسخةٍ مستنسخة عن طالبان - أو "طالبان الثانية" - تفتقر إلى الدقة العلمية والموضوعية.
وقبل الانتقال إلى الرواية الثانية، يجدر بنا التوقف عند نقطةٍ جوهرية: فالنظام العالمي المهيمن، وعلى رأسه الولايات المتحدة وبريطانيا والكيان الصهيوني، مدعوماً بتركيا، يتمتع بتفوقٍ استراتيجي في مجال الحرب الناعمة وهندسة السرديات التي تخدم مصالحه، وهذا يتزامن مع دعمه المتواصل للمخططات العسكرية والاستخباراتية والعملياتية، الهادفة إلى تقويض النظام السياسي في سوريا، ومن هذا المنظور الاستراتيجي، يسعى هذا النظام إلى نسج خيوطٍ وهمية تربط بين هيئة تحرير الشام وطالبان، في محاولةٍ مدروسة لشن حربٍ نفسية وغرس بذور الخوف في أوساط دول المنطقة، وبالأخص في صفوف محور المقاومة.
في سياقٍ متصل، أدلى القائد الأعلى للثورة في إيران بتوجيهاتٍ ذات أبعادٍ عميقة، حيث شدَّد على الضرورة القصوى لتعزيز المعنويات الشعبية ومجابهة محاولات بثّ روح اليأس، إذ صرَّح قائلاً:
"نشهد مساعي حثيثة من قِبَل فئةٍ معينة تستهدف زعزعة ثقة الشعب، وغرس بذور الخوف واليأس في النسيج المجتمعي، وتُدار بعض هذه المحاولات من الخارج عبر منظومةٍ إعلامية متكاملة - تلفزيونية وإذاعية وصحفية - تخاطب شعبنا بلغته الفارسية، مصوِّرةً الأحداث بطريقةٍ تستهدف بثّ الرعب وتقويض العزائم، وإن طبيعة التعامل مع هؤلاء تقتضي نهجاً مختلفاً ومقاربةً خاصةً".
وفي خطابه المفصلي يوم الأربعاء الماضي، كشف سماحته بوضوحٍ تام عن حقيقة ما يجري، مؤكداً: "ما نشهده على الساحة السورية ليس سوى ثمرة مخططٍ أمريكي-صهيوني مشترك، نعم، ثمة دولةٌ مجاورة لسوريا تضطلع بدورٍ صريح في هذا المشهد، وما زالت مستمرةً في ذلك، بيد أن غرفة العمليات المركزية تقبع في واشنطن وتل أبيب".
أما فيما يتعلق بالرواية الثانية، فإنها تقدم تحليلاً أكثر دقةً ونُضجاً، إذ تقرّ بوجود تقاطعاتٍ أيديولوجية بين طالبان وهيئة تحرير الشام، لكنها تنفي بشكلٍ قاطع فرضية تقديم طالبان دعماً منهجياً ومدروساً للتنظيمات الإرهابية في سوريا، غير أن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها، تتمثل في استمرار الروابط العضوية بين طالبان وتنظيم القاعدة، حيث نجح الأخير في الحفاظ على شبكة نفوذه وحضوره في المثلث الاستراتيجي: أفغانستان وسوريا والعراق، ما أدى إلى استدامة شبكة الاتصالات والتنسيق بين المجموعات الإرهابية المنضوية تحت مظلة القاعدة".
المخطط الأمريكي-الصهيوني لنشر عدم الاستقرار من سوريا إلى مناطق أخرى
قدَّم خبير شؤون آسيا الوسطى تحليلاً للمخططات المحتملة التي تنسجها الولايات المتحدة والكيان الصهيوني لنقل تداعيات المشهد السوري إلى الساحة الأفغانية، حيث أوضح:
"من الضروري إدراك أن هيئة تحرير الشام في صورتها الراهنة، ليست سوى امتدادٍ عضوي لجبهة النصرة، التي تُعدّ بدورها أحد أبرز أفرع تنظيم القاعدة، وقد نجحت هذه المنظومة في الحفاظ على نسيجها الأيديولوجي بل وتوسيع نطاق تأثيره، ويمكننا القول إن عودة طالبان إلى سدة الحكم في أفغانستان، قد حوَّلت البلاد مجدداً إلى محورٍ استقطابي للجماعات المتطرفة والإرهابية المنضوية تحت مظلة القاعدة.
نشهد اليوم في المشهد السوري تحت راية تحرير الشام، حضوراً متنامياً لعناصر من خلفيات عرقية متنوعة: الأويغور والطاجيك والقرغيز والشيشان والأوزبك، ما أثار هواجس أمنية عميقة لدى دول المنطقة، فثمة مخاوف جدية من توظيف المثلث الأمريكي-الصهيوني-التركي لهذه المنهجية - المتمثلة في تدريب وتجهيز ونقل المجموعات الإرهابية بين المناطق - لخلق بؤر توتر أمنية جديدة.
تبرز أفغانستان، وكذلك إقليم بلوشستان الباكستاني، كمنصات محتملة لتدريب وتجهيز ونقل العناصر الإرهابية نحو آسيا الوسطى وإيران، وصولاً إلى القوقاز وجنوب أذربيجان التي تسعى لتنفيذ مشروع ممر زنجيزور المزعوم.
إن تكديس عشرات الآلاف من العناصر الإرهابية المدربة على أحدث التقنيات العسكرية والمزودة بطائرات كوادكوبتر ومسيّرات، تحت أي مسمى كان، يشكّل تهديداً استراتيجياً يستدعي منظومةً مراقبةً متكاملةً وتدابير أمنية استباقية.
ومن الأهمية بمكان إدراك أن الولايات المتحدة تنظر إلى محور موسكو-بكين-طهران كمنافس استراتيجي وعائق أمام مشروعها العالمي، وخاصةً في غرب آسيا ووسطها، ما يدفعها لاستثمار الجماعات الإرهابية التي صنعتها في مواجهة هذا المحور، ويتعزز هذا التوجه مع استمرار العلاقات التاريخية بين المقاتلين الإرهابيين من الأويغور والطاجيك والقرغيز والأوزبك وحركة طالبان.
وفي مشهدٍ لافت للنظر، وكما عبَّر الجولاني، زعيم تحرير الشام، سابقاً عن ابتهاجه بتأسيس حكم طالبان في أفغانستان، بادرت طالبان بالمثل إلى تهنئة تحرير الشام على سيطرتها في سوريا، حيث دعت وزارة خارجيتها، عبر بيانٍ رسمي، الهيئة إلى إعلان عفوٍ شامل وإقامة نظامٍ إسلامي".
دور تركيا في نقل الإرهابيين من أفغانستان إلى سوريا
قدَّم باقري في تحليله رؤيةً شاملةً للمشهد، حيث أكد: "من غير الممكن منهجياً تجاهل المحور التركي وما يرتبط به من رحلاتٍ جوية مباشرة بين كابول وأنقرة، في عملية نقل العناصر الإرهابية المنحدرة من جمهوريات آسيا الوسطى إلى الساحة السورية، فقد اضطلعت تركيا، بقيادة أردوغان، بدورٍ محوري مباشر في تقديم منظومة دعمٍ متكاملة - تدريبية ولوجستية وتسليحية واستخباراتية وعسكرية - لمجموعات هيئة تحرير الشام الإرهابية، كما نفَّذت، بتخطيطٍ أمريكي-بريطاني محكم، عمليات نقل للعناصر الإرهابية من الساحتين الأفغانية والباكستانية إلى سوريا.
بيد أن المنهجية العلمية والموضوعية لا تسمح بتقديم استنتاجاتٍ قطعية حول مستوى تورط القيادة العليا لطالبان، وتحديداً الملا هيبة الله والحكومة في كابول، في عمليات تدريب وتسليح ونقل العناصر الإرهابية إلى سوريا بشكلٍ مباشر وممنهج".
طالبان ليست أداةً في يد أمريكا
واختتم الخبير في الشؤون الإقليمية تحليله بقراءةٍ للفرص والتحديات التي تفرضها العلاقة بين طالبان وهيئة تحرير الشام، حيث أوضح:
"إن افتراض صحة الرواية الأولى - وهي فرضية مجانبة للصواب - يعني أننا أمام تهديدٍ استراتيجي محض لإيران ومحور المقاومة، غير أن الواقع الميداني والتحليلي يشير إلى صورةٍ مغايرة تماماً، فالمجال متاح للانخراط في حوارٍ استراتيجي مع طالبان حول المخطط الأمريكي الكبير وتحالفاته الإقليمية.
ولا تدعم المؤشرات الميدانية والتحليلية فرضية تبعية طالبان المطلقة للولايات المتحدة، أو كونها مجرد أداة تنفيذية لمخططاتها التفتيتية في المنطقة، وعليه، يصبح من الضروري إخضاع مسارات التطورات لمنظومة رصدٍ وتحليلٍ أكثر دقةً وعمقاً من قِبَل النخب الاستراتيجية وصناع القرار السياسي".