الوقت - على امتداد شهرين وثلاثة أيام من الحرب الشاملة التي شنها الكيان الصهيوني ضد لبنان بكل ما أوتي من قوة، استنفد الکيان كل أوراقه وإمكاناته، بيد أنه في نهاية المطاف، وتحت وطأة نيران المقاومة الباسلة، وجد نفسه عاجزًا عن تحقيق أي مكسب استراتيجي، ما اضطره إلى الاستنجاد بالولايات المتحدة لوقف نزيف الخسائر، والرضوخ للشروط اللبنانية.
توّجت هذه الملحمة البطولية يوم الأربعاء باتفاق لوقف إطلاق النار، يمثّل تتويجًا لتضحيات الشهداء الأبرار وصمود الشعب الأبي، مسطرًا بذلك فصلًا جديدًا في تاريخ المنطقة.
بموجب بنود هذا الاتفاق، يلتزم الكيان الصهيوني بانسحاب تدريجي لقواته على مدار ستين يومًا، منحسرًا إلى ما وراء الخط الأزرق، كما يتعهد كل من الكيان الصهيوني ولبنان بالامتثال الصارم لقرار مجلس الأمن رقم 1701، وستباشر القوات الأمنية اللبنانية مهامها بالانتشار على طول الحدود والمعابر، وكذلك على امتداد الخط الفاصل للمنطقة الجنوبية، وفقًا لخريطة نشر القوات المرسومة.
كانت هذه الحرب، في تصورات بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني الواهمة، ستُفضي إلى رسم ملامح جديدة للشرق الأوسط عبر استئصال شأفة المقاومة اللبنانية، غير أن جميع الحسابات المغلوطة لقادة تل أبيب تهاوت كأوراق الخريف، إذ نجحت المقاومة في الإمساك بدفة الأحداث طوال فترة المواجهة، وتمكنت من فرض معادلتها السياسية على العدو بنفس القوة والحزم، اللذين فرضت بهما معادلتها الميدانية.
في جوهر الأمر، لم يكن نتنياهو يضمر أدنى رغبة في إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار، بيد أنه وجد نفسه مرغمًا على الرضوخ والقبول به، بعدما شهد بعينيه المجردتين الإخفاق الذريع لجيش كيانه في تحقيق أهدافه العسكرية المزعومة، ليسدل الستار على فصل آخر من فصول الوهم الصهيوني.
صمود المقاومة يُرغم العدو على الاستسلام
في أعقاب إعلان وقف إطلاق النار، سعى نتنياهو جاهدًا، عبر تصريحاته الأولى، إلى تصوير الاتفاق كانتصار مؤزر لحكومته والمستوطنين، مدعيًا تقويض تهديدات الجبهة الشمالية، بيد أن تمحيصًا دقيقًا لمسار المعركة ونتائجها، يكشف زيف هذه الادعاءات ويعريها، فحتى أكثر التحليلات تفاؤلاً، تلك التي قد تتماهى مع سردية رئيس وزراء الكيان الصهيوني، تقف عاجزةً أمام تأكيد مزاعم نتنياهو الواهية حول تحقيق نصر مزعوم.
لقد استهل الکيان غزوه البري للأراضي اللبنانية بتبجحات فارغة حول إعادة تشكيل المشهد السياسي والأمني في لبنان، غير أنه وجد نفسه، في نهاية المطاف، مرغمًا على الانسحاب المذل، مخلفًا وراءه أشلاء جنوده بالمئات وآلاف الجرحى، دون أن يتمكن من السيطرة على شبر واحد من الأرض، أو إجبار بيروت على إعادة النظر في القرار الأممي 1701.
منذ اندلاع شرارة الحرب البرية، وقف حزب الله شامخاً في وجه الكيان الصهيوني، غير آبهٍ بترسانته من الأسلحة المتطورة، ولا بمنظومته الاستخباراتية المتقدمة، ولا بالدعم الغربي اللامحدود، وبصموده الأسطوري، أحبط كل محاولات الکيان لاغتصاب أي جزء من التراب اللبناني، مسطّراً بذلك ملحمةً خالدةً ستظل نبراسًا للأجيال القادمة، ودرسًا بليغًا للمعتدين.
خاض نتنياهو غمار المعركة البرية ضد حزب الله، مستسلماً لوهم القدرة على إخضاع هذا الحزب المقاوم في غضون فترة وجيزة، وإعادة الهدوء إلى الشمال الفلسطيني المحتل.
وفي إطار استراتيجية بالغة التعقيد ومحكمة الإعداد، بادرت القوات الصهيونية أولاً بتدمير آلاف أجهزة الاتصال اللاسلكي في لبنان، ثم أولت عنايةً فائقةً لاستهداف قيادات حزب الله ورموزه، في مسعى محموم لتحييد القدرة العسكرية للمقاومة عبر الإجهاز المفاجئ على منظومة الاتصالات وآليات القيادة والسيطرة لدى هذا التنظيم.
وعقب تنفيذ هذين المخططين، ساد الاعتقاد في أروقة الکيان الصهيوني بأن الأمور قد حُسمت لمصلحته، وأنه في ظل غياب القيادات الفذة والزعامات المحنكة لحزب الله، ستنهار معنويات مقاتلي هذه الحركة حتماً. واعتبر الکيان أن الفرصة قد سُنحت لشنّ حملة جوية كاسحة تستهدف البنى التحتية لحزب الله، بغية استئصال شأفة المقاومة اللبنانية نهائياً.
بيد أن الأحداث سرعان ما أثبتت عكس هذه التوقعات، إذ لم يلبث حزب الله أن نهض شديد البأس، متمكناً من إعادة هيكلة صفوفه وترميم قيادته بكفاءة مذهلة، ليستعيد بذلك زمام المبادرة في ساحة المعركة بصورة حاسمة.
بتولي الشيخ نعيم قاسم زمام الأمانة العامة لحزب الله، عقب استشهاد السيد حسن نصر الله بفترة وجيزة، انبثق فجر حقبة جديدة في أتون الصراع بين المقاومة والكيان، لتبدأ مخططات نتنياهو في التهاوي كأوراق الخريف.
كان في حسبان الصهاينة أن تُفضي الحملة البرية إلى إرساء دعائم الأمن في شمال الأراضي المحتلة، وأن تعيد سبعين ألفاً من المستوطنين المهجرين إلى منازلهم، بيد أن رياح الحرب جرت بما لا تشتهي سفن الاحتلال، إذ تضخمت أعداد النازحين تضخماً مهولاً، وأضحت الهجمات الصاروخية والمسيّرة المتتالية التي يشنها حزب الله، تُلجئ ما يربو على مليوني نسمة إلى الاحتماء يومياً في دهاليز الملاجئ.
ادّعى نتنياهو، في غمرة غروره، أن بوسعه انتزاع تنازلات جسيمة من حزب الله عبر ما أطلق عليه "التفاوض في ظل دوي المدافع"، غير أن المقاومة، من خلال استهدافها الدقيق لشرايين الكيان الحيوية ومفاصله الاستراتيجية، لقّنت الکيان درساً بليغاً في فنون ممارسة الضغط العسكري المحكم إبان المفاوضات، درساً سيظل محفوراً في ذاكرة الصهاينة أمداً طويلاً.
لقد استنفر الكيان الصهيوني قواه كافةً، متوسلاً بترسانته الحربية المتطورة، بما فيها صواريخه الخارقة للحصون، في مسعى محموم لتحقيق ولو شذرة من النصر، بيد أن حزب الله، وفي خضم اشتداد أوار المعارك، أماط اللثام عن أسلحة فتاكة غيرت موازين القوى جذرياً، مبدّداً سراب الأوهام الذي راود الکيان على مدى ثمانية عشر عاماً حول القدرات العسكرية للمقاومة.
وفي تصريح يثير السخرية ويدعو للعجب، زعم نتنياهو قائلاً: "لقد أعدنا حزب الله عقوداً إلى الوراء"، غير أن الحقيقة الساطعة سطوع الشمس في كبد السماء، تتجلى في أن إطلاق حزب الله لصواريخ الجيل الجديد - الموجهة والكروز - وكشفه النقاب عن منظومة دفاعية متطورة في الآونة الأخيرة، كان وقعه من الألم والهول بمكان اضطر معه نتنياهو وزمرته إلى الرضوخ والإذعان لقوة حزب الله الضاربة، ورؤية اتفاق وقف إطلاق النار كطوق النجاة الوحيد من أتون نيران المقاومة المستعرة.
ففي يوم الأحد المنصرم وحده، أطلق حزب الله ما يناهز 340 صاروخاً صوب الأراضي المحتلة، ضمن 51 عملية عسكرية محكمة، ما أدى إلى دوي صفارات الإنذار أكثر من 500 مرة في شتى أرجاء الكيان المحتل، في مشهد يجسّد هول الرعب الذي استبدّ بالصهاينة، وأصابهم في مقتل.
ومن زاوية أخرى، يتجلى المعيار الفيصل لتمييز المنتصر من المندحر في هذه المعرکة، من خلال استقراء ردود الفعل الداخلية في الكيان الصهيوني، حيث نرى حتى حلفاء نتنياهو من أقصى اليمين يصوّبون إليه سهام النقد المسمومة، في مشهد يكاد يقترب من الخيانة السياسية.
إن وصم الشخصيات المتطرفة، على شاكلة بن غفير - وزير ما يسمى الأمن الداخلي في الكيان الصهيوني - لقبول اتفاق وقف إطلاق النار بأنه خطأ تاريخي لا يُغتفر، لهو برهان ساطع على أن الطرف الذي أُرغم على الانحناء أمام هذا الاتفاق هم الصهاينة أنفسهم، في انتكاسة استراتيجية تهزّ أركان كيانهم الهش.
علاوةً على ذلك، يعتري المستوطنون، ولا سيما أولئك القابعين في شمال الأراضي المحتلة، سخط عارم يكاد يصل حد الغليان إزاء الحصيلة العقيمة لهذه الحرب، في تأمين عودتهم المأمولة إلى منازلهم، وقد كشف استطلاع للرأي - أُجري بالأمس- عن حقيقة مفادها بأن 99% من الإسرائيليين، يرون أن جيشهم قد أخفق إخفاقاً ذريعاً في إحراز أي نصر يُذكر في مواجهته مع حزب الله.
وفي سياق متصل، تهاوت ثقة المواطنين الصهاينة في حكومة نتنياهو تهاوياً دراماتيكياً، حيث يعتقد 64% منهم أن المتطرفين قد برهنوا على عجزهم التام عن إدارة دفة الحكم في الأراضي المحتلة، في إشارة واضحة إلى أفول نجم اليمين المتطرف وانحسار شعبيته.
وفي هذا المضمار، أدلى "تامير هيمان"، الذي تبوأ سابقاً منصب رئاسة شعبة الاستخبارات العسكرية في جيش الاحتلال الصهيوني، باعتراف مدوٍّ عقب إبرام اتفاق وقف إطلاق النار، إذ أقرَّ بأن آلة الحرب الصهيونية قد أخفقت إخفاقاً ذريعاً في تحقيق أي من أهدافها المنشودة في عدوانها الغاشم على لبنان، وهذا الإقرار الصادم يُجسد بجلاء تبخر أحلام عودة المستوطنين السريعة والآمنة إلى المناطق الشمالية المحتلة.
وعلى الرغم من سريان وقف إطلاق النار، يرفض المستوطنون العودة إلى حدود لبنان، كمن يأبى الرجوع إلى جحر الأفعى، وفي هذا الصدد، نحت "أميخاي شتيرن"، عمدة "كريات شمونة"، تشبيهاً بليغاً، إذ شبّه عدم رغبة النازحين في العودة إلى الشمال بالأبقار المساقة إلى المذبح، في تصوير حي لحالة الهلع المستشري التي تنخر في عظام المستوطنين.
إن المستوطنين الفارين، الذين اكتووا بنار بأس حزب الله وذاقوا مرارة صواريخه، قد فقدوا كل ذرة أمل في التزام حكومة نتنياهو المتطرفة بالاتفاقيات على المدى البعيد، فهم يرون في وعود هذه الحكومة سراباً خادعاً. ولذا، تعشش في صدورهم مخاوف جمة من احتمالية تجدد أوار الاشتباكات في المستقبل القريب، وهم يرفضون رفضاً قاطعاً مواصلة حياتهم تحت وطأة شبح الخوف والرعب المخيم، الذي بات يلاحقهم كظلهم، ويقضّ مضاجعهم ليل نهار.
التلاحم الوطني في لبنان، صخرة تتحطم عليها أحلام الغزاة
من بين العوامل الحاسمة التي نسجت خيوط هزيمة الكيان الصهيوني أمام صرح حزب الله الشامخ، برز التلاحم الوطني في لبنان كجوهرة ثمينة في تاج النصر، فقد التفّ الشعب اللبناني، بكل أطيافه وانتماءاته، حول راية المقاومة.
إن الروح المعنوية والتماسك الداخلي في أتون المعارك، لهما من الأثر ما يفوق وقع السلاح في ميزان النصر، وقد حبا الله حزب الله بهذه النعمة الجليلة، فاستطاع، مستنداً إلى ظهير شعبي صلب، أن يقف شامخاً في وجه المحتلين، وأن يُرغمهم في نهاية المطاف على الانحناء أمام إرادة المقاومة.
حتى نتنياهو، في مسعى يائس أشبه بمن يحاول حجب نور الشمس بغربال، سعى إلى تأليب الشعب على حزب الله عبر تدمير البنى التحتية والمراكز الاقتصادية اللبنانية، متوهماً أنه بذلك سيجبر هذه الحركة الصلبة على كبح جماح عملياتها الصاروخية والمسيّرة، بيد أن هذا السيناريو قد تبخر، إذ وقف اللبنانيون، رغم ما يعانونه من ضائقة اقتصادية، صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، مقدمين ما جادت به أيديهم من مساعدات، وإن كانت متواضعةً، لإخوانهم في المناطق المنكوبة، وبهذا التلاحم الأسطوري، حطموا آمال الكيان الصهيوني وأحلامه.
على الرغم من الاعتداءات الغاشمة للكيان الصهيوني ومساعيه المحمومة لزرع بذور الرعب والهلع في قلوب المدنيين الآمنين، ظلت إرادة المقاومة شامخةً، لم تنل منها سهام العدوان ولا عواصف الطغيان، وفي حقيقة الأمر، شكّل صمود المقاومة الأسطوري، مقروناً بالموقف الموحد للحكومة والشعب اللبناني، حجر الزاوية في إرغام الکيان على التقهقر عن شروطه المجحفة.
واليوم، يُجسّد خفقان رايات المقاومة ولبنان في أيادي أبناء هذا الوطن العصي على الانكسار، شهادةً حيةً على النصر المؤزر، مبرهنةً بما لا يدع مجالاً للشك على قدرة لبنان الفذة في تحويل محنة العدوان إلى منحة لتعزيز لُحمته الوطنية.
إن هذا الاتفاق ليس مجرد إعلان لوقف إطلاق النار، بل هو وثيقة ناطقة بلسان الحال عن قدرة لبنان الفائقة على الصمود والتفاوض من موقع العزة والشموخ، إنه منعطف تاريخي في مسيرة صراع طويل الأمد، عنوانه العريض أن لبنان أرض العزة والكرامة، عصية على الانحناء والاستسلام.
لقد برهنت المواجهة الضارية بين حزب الله والكيان الصهيوني، أن ما يرسم ملامح المفاوضات السياسية ويحدّد مصير اتفاقيات وقف إطلاق النار، ليس ترسانة الأسلحة، بل روح المقاومة المتأججة والصمود الأسطوري في ساحات المعرکة، وقد جسّد مقاتلو حزب الله هذه الحقيقة الناصعة في ميدان النزال، ملقّنين المحتلين درساً بليغاً يُنقش في ذاكرة الأجيال، يردعهم عن مجرد التفكير في انتهاك حرمة الأراضي اللبنانية.