الوقت- في مشهد غير مألوف يشهد العالم اليوم أن الحراك القانوني غير العادي أقض بالفعل مضجع الحكومة الإسرائيلية، حتى اضطرت لطلب المساعدة من حلفائها الغربيين لدرء الاتهامات والفرار من العقاب، وفي حقيقة الأمر تحولت القضية إلى معركة عالمية بين الدول المؤيدة لكيان الاحتلال الإسرائيلي والناشطين المناهضين للاستعمار والفصل العنصري في دول العالم الثالث، الأمر الذي يضع المحكمة الدولية في موقف صعب إما تثبت من خلاله استقلال قراراتها ونزاهتها أو فشلها و تابعيتها للإمبريالية الصهيونية وداعميها.
استنفار وطرق للأبواب
وفي السياق، طالبت الخارجية الإسرائيلية سفاراتها والمنظمات اليهودية في أنحاء العالم بالاستعداد لتداعيات محتملة إذا أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين، بتهمة ارتكاب جرائم حرب بحق الفلسطينيين.
وعلى صعيد متصل، دعا مسؤول إسرائيلي الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى منع المحكمة الجنائية الدولية من إصدار مذكرات اعتقال دولية بحق مسؤولين إسرائيليين، منهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يوآف غالانت، ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي، وكانت صحيفة معاريف الإسرائيلية قد نقلت عن مصادر مطلعة -لم تسمها- قولها إن نتنياهو خائف ومتوتر بشكل غير طبيعي، جراء احتمال صدور مذكرة اعتقال بحقه، والذي أجرى خلال الأيام الماضية عددا مكثفا من المكالمات الهاتفية مع زعماء ومسؤولين دوليين في محاولة للضغط لمنع صدور مذكرة اعتقال بحقه، وخاصة مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، وأكدت الصحيفة أن نتنياهو يحاول الضغط بكل الطرق الممكنة، إذ أصبح صدور مذكرة الاعتقال مسألة وقت فقط.
ضغوطات أمريكية
إن الولايات المتحدة، مثل "إسرائيل"، ليست من بين الـ124 دولة الموقعة على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، لكنها تشارك في جهود لعرقلة إصدار مذكرات الاعتقال.
ونقلت صحيفة جيروزاليم بوست، الإثنين، عن مسؤول إسرائيلي -لم تسمه- قوله إنه لا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية (التابعة للأمم المتحدة ومقرها بمدينة لاهاي في هولندا) التحرك ضد نتنياهو وكبار ضباط الجيش دون دعم علني أو تكتيكي من الولايات المتحدة.
وداعيا الرئيس الأمريكي إلى التحرك، تساءل المسؤول الإسرائيلي "أين بايدن؟ لماذا هو هادئ بينما من المحتمل إلقاء إسرائيل تحت الحافلة؟" لتخرج المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان-بيير وتقول إنه ليس من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية إصدار الأحكام بحق المسؤولين الإسرائيليين.
جاء ذلك في الإحاطة الإعلامية للمتحدثة الأمريكية، الإثنين، تعليقا على احتمال إصدار الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين لارتكابهم “مجازر” في غزة.
وذكرت جان-بيير أنّ موقف الولايات المتحدة لم يتغير فيما يتعلق بتحقيق المحكمة الجنائية الدولية، قائلة: نحن لا نؤيده ونعتقد أنه ليس من اختصاصها.
في المقابل، في سابع زيارة لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى المنطقة «والثامنة إلى (إسرائيل)» بدا أن الولايات المتحدة تريد استنفار كامل طاقتها في سبيل التوصل إلى وقف إطلاق نار في قطاع غزة يقود إلى التخفيف وحجب الأنظار على آخر تطورات قرارات محكمة العدل الدولية، وكما أن مسار التفاوض وصل إلى «فرصته الأخيرة» قد يكون من الممكن اعتبار زيارة بلينكن الحالية، زيارة الفرصة الأخيرة ولجميع الأطراف، وخصوصاً الولايات المتحدة التي ما زالت تراوح في دائرة الحلقة الأضعف إذا ما أخذنا بالاعتبار سبعة أشهر وأكثر من الفشل في حسم جبهة غزة، فلا هي حسمتها لمصلحة الكيان الإسرائيلي ولا هي استطاعت التأثير في الإقليم بما يضغط على المقاومة الفلسطينية (وجبهات الإسناد) لحسم هذه الجبهة.. ولو على تعادل.
اختبار صعب
تشكل مواجهة مؤيدي ومعارضي الإبادة الجماعية التي تنفذها قوات الاحتلال الصهيوني في قطاع غزة، في قاعات المحاكم مشهداً غير مألوف واختباراً صعباً بالنسبة للمحاكم الدولية في حادثة غير مسبوقة تضعها على مفترق طرق أمام العالم.
وبالنسبة لبقية العالم، فإن قرارات المحكمة تعد بمثابة انتصار مهم، ذلك لأنه يطلق زخما جديدا في النضال من أجل منع الحكومات والشركات من مساعدة الهجوم الإسرائيلي على غزة، وكانت الحقائق التي توصلت إليها المحكمة الدولية شجعت كثيرا من الدول والأطراف في أنحاء العالم لإبداء اعتراضاتهم الخاصة ضد الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، فدولة مثل نيكاراغوا حثت، في فبراير/شباط الماضي، حكومات بريطانيا وألمانيا وهولندا وكندا على الكف فورا عن توريد الأسلحة والذخائر والتكنولوجيا إلى كيان الاحتلال الاسرائيلي، بل أعطتهم إشعارا كتابيا بأنها ستتخذ جميع التدابير القانونية المناسبة، منها اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، "لضمان احترام هذه النصوص الدولية الأساسية والقانون الدولي العرفي".
وأحال المحامون في أستراليا رئيس الوزراء أنتوني ألبانيز إلى المحكمة الجنائية الدولية لتورطه المحتمل في الإبادة الجماعية، كما اتصلت أطراف مختلفة بالمحكمة الجنائية الدولية، التي تتمتع بصلاحية محاكمة الأفراد والكيانات المتهمين بارتكاب فظائع، وبما أن جريمة الإبادة الجماعية لا تسقط بالتقادم، فمع إماطة اللثام عن الحقائق والتحقق منها في غزة، أو في العواصم الأجنبية التي تدعم تهمة الإبادة الجماعية ضد كيان الاحتلال، عندها يمكن أن نشهد دعاوى قانونية تُرفع في أي وقت في جميع أنحاء العالم.
تواطؤ
في ظل التواطؤ العلني للولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الحكومات الغربية الأخرى في دعم الإبادة الجماعية التي يقوم بها جيش الاحتلال في غزة، تنأى أغلب وسائل الإعلام الغربية الرئيسية بنفسها عن تغطية هذا الخبر المهم بعمق، وغياب التغطية الجادة يكشف إلى أي طرف يميل الإعلام الغربي.
على الرغم من أن رفع قضية ضد كيان الاحتلال الاسرائيلي يعتبر تطوراً مفصلياً في المعركة القانونية التي تهدف لوقف الإبادة الجماعية الإسرائيلية، غير أن معظم وسائل الإعلام الغربية لم تقم بتغطية كل الحجج التي دفعت بها جنوب أفريقيا في القضية، ما يفسر كشف الدعوى القضائية للعديد من الحقائق غير المريحة حول هجوم كيان الاحتلال وجيشه المستمر على غزة، وما درجت على تنفيذه من عمليات تطهير عرقي ضد الفلسطينيين على مدى 75 عاما، ورغم ذلك إلا أن أحد أهم التطورات ما بعد عملية طوفان الأقصى هو هزيمة الامبراطورية الإعلامية الأمريكية الصهيونية في تلفيق الروايات المزيفة لمصلحة الكيان الصهيوني وما تشهده الجامعات الأمريكية والأوروبية اليوم من حراك غير مسبوق أكبر دليل على ذلك.
وعلى الرغم من أن محكمة العدل الدولية توصلت إلى اتهام حكومة كيان الاحتلال الإسرائيلي بارتكاب أعمال تنتهك "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، واعتبرته اتهاما "مقبولا"، فإن حكومة الاحتلال وحلفاءها تجاهلوا قرار المحكمة، في حين قللت وسائل الإعلام الغربية من أهميته، أو ركزت على الجزئية التي تصب في مصلحة كيان الاحتلال الإسرائيلي، وهي أن المحكمة لم تأمر بوقف الهجمات الإسرائيلية.