الوقت - في 20 أكتوبر/تشرين الأول، كتب مجموعة من الأكاديميين البريطانيين المتخصصين في العلوم السياسية والفلسفة السياسية والتاريخ والجغرافيا والقانون ودراسات الشرق الأوسط، رسالةً مفتوحةً إلى رئيس الوزراء قائلين: "اليوم، إسرائيل متورطة في كارثة أخلاقية، والدول التي تغطيها ملطخة أيديها بدماء الفلسطينيين الأبرياء، باسم الكرامة الإنسانية والأخلاق، يجب أن تطالبوا بوقف فوري لإطلاق النار في غزة".
لماذا كتبت هذه الرسالة إلى رئيس الوزراء البريطاني؟ هناك سبب لذلك، إن القصف الجوي الإسرائيلي على غزة، منذ لحظة بدايته وحتى اليوم (اليوم الخامس والستين)، يتم تنفيذه بعنف قاسٍ لا حدود له، وبشكل مباشر ومتعمد، بهدف قتل المدنيين في المنازل والمدارس والمستشفيات ومراكز الأمم المتحدة، وفي كل مكان لجؤوا إليه.
لماذا هو متعمد؟ لثلاثة أسباب؛ أولاً، التنفيس عن الغضب المجنون لقادة الکيان الإسرائيلي، ثانياً، إشباع الشعور بالانتقام؛ وبالطبع يجب الانتقام من حماس والقسام وقوى المقاومة، لكنهم أخذوه من الشعب وما زالوا يأخذونه.
لأن هناك مقولةً في الکيان الإسرائيلي وازدادت قوةً بعد 7 أكتوبر، وهي أنه ليس لدينا أبرياء في غزة، الجميع متورطون، ولأنهم يدعمون حماس، عليهم أن يدفعوا ثمن ذلك، حتى الأطفال، أي حتى الطفل الذي سيدعم حماس بعد بضع سنوات؛ وحسب تعبيرهم "إرهابيو المستقبل"، وكتبت جوديث لازارويتز على موقع "srugim" الديني، أنه لا يوجد شيء اسمه أبرياء، لأن أهل غزة اختاروا بوعي أن يكونوا دروعاً بشريةً لحماس.
والسبب الثالث هو أن هذا القصف الهمجي مقصود، بسبب تهجير الناس لإخلاء غزة.
لقد نشرت صور المناطق التي تم قصفها في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي حول العالم، كانت الهجمات قاسيةً جداً، لدرجة أن الإدانة الأولية لحماس انتقلت فجأةً لإدانة الکيان الإسرائيلي.
وهناك أصوات هادئة في الغرب دعت الکيان الإسرائيلي إلى مراعاة "التناسب" في الرد على حماس، وفي الکيان، وصف القادة السياسيون حماس بالحيوانات البرية، وقال آخرون رداً على تلك الأصوات في الغرب، إن هجوم 7 أكتوبر الذي شنته حماس كان وحشياً أيضاً، ولذلك، فإن يوم السابع من أكتوبر يبرر أي نوع من الهجوم، واستخدام أي نوع من الأدوات.
بالطبع، خلال الحرب أجابت حماس على هذا السؤال عدة مرات، بأن عناصر حماس هاجموا الجنود الإسرائيليين والقواعد العسكرية بالقرب من غزة، لكن الکيان الإسرائيلي الآن تقصف المدنيين فقط.
والحقيقة هي أن ما أثار الغضب المفرط والشعور بالانتقام ومحاولة تهجير أهل غزة بالدرجة الأولى، ليس نفس هجوم 7 أكتوبر، بل السبب الرئيسي هو "تشويه كرامة عمرها 75 عاماً".
لقد ضربت حماس هيبة "إسرائيل"، واستخباراتها، وهيبتها العسكرية والسياسية والاجتماعية، إلى الحد الذي يجعل قادة الکيان مستعدين لفعل أي شيء وكل شيء لتدمير حماس في غزة.
أدوات الکيان الإسرائيلي ضد قطاع غزة
أولاً؛ سلاح الماء
من هذه الأدوات استخدام الماء والغذاء والدواء والوقود كأدوات حربية، يحاصر الکيان الإسرائيلي قطاع غزة منذ عام 2006، وكل شؤون هذه المنطقة الضيقة تمر عبر سبعة معابر خاضعة للسيطرة الإسرائيلية.
وقال مقرر الأمم المتحدة بيدرو أروجو أجودو في 17 تشرين الثاني/نوفمبر: "يجب على إسرائيل أن تتوقف عن استخدام المياه كسلاح في الحرب، 70% من سكان غزة يشربون مياهاً مالحة أو غير نقية، ويعتبر هذا الإجراء انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي، والعطش والأمراض الناجمة عن نقص المياه النظيفة، تعرض سكان غزة لخطر الموت".
هل هذه الحجة مهمة بالنسبة للکيان الإسرائيلي؟ طبعاً لا، لأنه يقتل نفس الأشخاص بالقنابل ويقتلهم عمداً، حتى يتمكن الآخرون من الرؤية والتحرك وإخلاء غزة بشكل أسرع.
ثانياً؛ سلاح الدواء والوقود
بسبب نقص الدواء والتخدير، مات العديد من المرضى والجرحى حتى في المستشفيات، وبسبب انقطاع التيار الكهربائي ونقص الوقود ومنع الکيان الإسرائيلي تزويد المستشفيات بالوقود، قُتل العديد من مرضى السرطان أو مرضى الكلى، وخاصةً الأطفال المبتسرين.
لکن مرة أخرى هذه ليست مهمةً، لماذا؟ لأن الکيان الإسرائيلي قصف المستشفى نفسه ليقتل الجميع، ألم يوقّع عدد من الأطباء الإسرائيليين على عريضة في 3 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، يطالبون فيها الجيش بقصف المستشفيات إذا لزم الأمر، ويصفون ذلك بأنه "حق مشروع لإسرائيل"؟
ثالثاً؛ الهجرة القسرية والتطهير العرقي وقصف المهاجرين
الأداة التالية التي استخدمها الکيان الإسرائيلي هي الهجرة القسرية، وهناك تعريفات مختلفة لهذا المفهوم في القانون الدولي.
نية الکيان الإسرائيلي هي إخلاء سكان غزة إلى صحراء سيناء في مصر، وقد أعلنت مصر معارضتها صراحةً، وقالت إن هذا خطها الأحمر، وتمثل هذه السياسة الإسرائيلية أداةً للتهجير القسري والتطهير العرقي.
النقطة المهمة جداً هي أن التهجير القسري (والتطهير العرقي) يعتبر "جريمة حرب" (المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، أو نظام روما الأساسي)، لكن هل اکتفی الکيان الإسرائيلي بهذا المستوى من جرائم الحرب؟ کلا.
بتاريخ 13 أكتوبر، عندما بدأ جزء من أهالي مدينة غزة (شمال قطاع غزة) بالتحرك باتجاه جنوب غزة، إثر أمر الإخلاء القسري الذي أصدره الکيان الإسرائيلي، على شكل قافلة مكونة من عشرات الشاحنات الخفيفة والمركبات الثقيلة، قصفتهم المقاتلات الإسرائيلية أيضاً (ما أسفر عن 70 قتيلاً علی الأقل، معظمهم من النساء والأطفال)، إنه نوع متقدم من جرائم الحرب!
هل انتهى الأمر؟ کلا.. إذ تم قصف المناطق الجنوبية، التي كان على الناس الذهاب إليها ليكونوا آمنين بأوامر إسرائيلية، وقد تكرر هذا العمل كثيراً في قطاع غزة خلال الشهرين الأخيرين، وهو ما أعلنه فولكر تورك، النائب النمساوي للأمين العام للأمم المتحدة والمفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في 19 تشرين الثاني/نوفمبر، حيث قال: "لا يوجد مكان آمن في قطاع غزة، حتى أن ثلاث مدارس تابعة للأمم المتحدة تستضيف لاجئين، قد تم استهدافها بغارات جوية خلال الـ 48 ساعة الماضية، بالأمس شاهد زملاؤنا "منطقة الموت" بأعينهم فهربوا بأوامر من الجيش الإسرائيلي، لكن إلى أين؟ لا يوجد مكان آمن في غزة".
رابعاً؛ سلاح الكوليرا والأمراض المعدية
نتيجة حصار غزة وعدم دخول الأدوية والمواد الصحية، وانقطاع التيار الكهربائي عن المراكز الطبية، وبقاء جثث شهداء غزة تحت الأنقاض لفترة طويلة، حذرت الأمم المتحدة مراراً وتكراراً، وکان آخرها في 4 ديسمبر، من أنه إذا استمر الوضع الإنساني على هذا النحو، واستمرت "إسرائيل" في القصف ولم تسمح بدخول المساعدات، فإن "سيناريو رهيب سيحدث في غزة".
کما قالت لين هاستينغز منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية "نظراً لانهيار النظام الصحي في غزة ونقص المياه النظيفة... فإن كارثةً صحيةً على وشك الحدوث، ويمكن أن تبدأ جميع أنواع الأمراض المعدية".
قد يقول البعض، حسنًا، إن انتشار الأمراض هو أحد الظروف الطبيعية للحروب، کلا، هل هذه حرب عالمية؟ لننتبه جيداً؛ "إسرائيل" تمنع دخول الوقود إلى غزة ليتم تدمير حماس، حتى لو كان ذلك يعني تدمير جميع المستشفيات والمراكز الصحية وموت جميع المرضى والأطفال، حيث إن "إسرائيل" توافق على انتشار الكوليرا بين أهل غزة حتى تضطر حماس إلى الاستسلام.
بالتأکيد سمعتم الأسبوع الماضي (6 ديسمبر) تصريح وزير الأمن القومي في الکيان الصهيوني إيتمار بن غفير في اجتماع مجلس الحرب، للنظر في السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، حيث قال إن كل قطرة وقود تدخل قطاع غزة، هي المسافة التي تفصل الجيش عن هزيمة حماس.
لذا، من الجيد الاستماع أيضًا إلى ما كتبه غيورا إيلاند، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، والجنرال المتقاعد في الجيش وعضو مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS)، في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) في مذكرة نشرتها صحيفة يديعوت أحرونوت، بأن الطريق إلى هزيمة حماس، هو انتشار الكوليرا في غزة.
وأضاف آيلاند: "إن السبيل لكسب هذه الحرب، بسرعة أكبر وبتكلفة أقل بالنسبة لنا، هو تدمير أنظمة الطرف الآخر (في غزة)، وليس قتل المزيد من حماس... لقد حذّرنا المجتمع الدولي من الكارثة الإنسانية وتفشي وباء الكوليرا في غزة، ولكن لا ينبغي لنا أن نخجل من ذلك، ورغم كل الصعوبات، فإن الكوليرا والأمراض المعدية في جنوب قطاع غزة، ستقربنا في النهاية من النصر بمعدل أسرع وبتكلفة أقل"، وطالب الحكومة بعدم السماح بدخول أي مساعدات إنسانية إلى غزة.
لكن هذه الفكرة غير إنسانية وغبية بالطبع، لدرجة أن الأصوات المناهضة لها ارتفعت في الکيان الإسرائيلي. حيث كتبت صحيفة هآرتس يوم 10 كانون الأول (ديسمبر) (بقلم أورا مينور): "قال آيلاند مؤخراً إن الطريقة السريعة والرخيصة للفوز هي تفشي الكوليرا في غزة. يجب رفض فكرة استخدام الكوليرا كتكتيك عسكري مشروع بشكل قاطع. هل للكوليرا والأمراض المعدية حدود وجنسية؟ حتى الآن، تم اقتراح العديد من الطرق والأدوات لهزيمة حماس، لكن فكرة آیلاند هذه خاطئة من الناحية الاستراتيجية والطبية والأخلاقية".
لماذا يقول البعض إن الکيان الإسرائيلي يجب أن يتبع قواعد الحرب؟
كان هذا الخيار سيئًا للغاية، لدرجة أنه تم تقديم ملاحظات أخرى ضد الفكرة، وبالطبع، لم تكن المعارضة بسبب الجانب الإنساني للقضية، ولكن سبب المعارضة هو أنه لا ينبغي لـ"إسرائيل" أن تفعل أي شيء من شأنه أن يرفع صوت الاحتجاج العالمي، وتضطر تل أبيب إلى إنهاء الحرب قبل أن تتمكن من تحقيق الأهداف.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر، كتبت صحيفة كالكاليست الاقتصادية الإسرائيلية في تقرير (لكاتبه موشيه جورلي) بعنوان "لا يجوز لإسرائيل أن ترتكب جرائم حرب": "لا ينبغي للمرء أن يستمع إلى الكلمات غير المسؤولة للسياسيين أو الأطباء أو المحامين، الذين يقولون إن الجيش الإسرائيلي ليس ملزماً بالامتثال للقانون الدولي، مثلاً يقولون إن اتفاق جنيف الرابع غير صالح، لأن حماس ليست حكومة... وحتى في خضم هذه الحرب، لا بد من تجنب إلحاق الأذى بغير المعنيين بالموضوع قدر الإمكان، خشية أن تتزايد الضغوط العالمية على "إسرائيل"، إن حرية العمل الإسرائيلية تحظى بالدعم في أوروبا وأمريكا، وإذا زاد الضغط فلا بد من وقف الحرب قبل تحقيق أهداف الحرب".
كما ترون، أياً كانت الأداة المتاحة للکيان الإسرائيلي لتدمير حماس، فإنه بلا شك سيستخدمها لتغطية العار الذي لحق به بإنجاز رائع، ألا وهو غزة خالية من حماس.
وهو هدف حتى الأمريكيين الذين لا يؤمنون بقدرة الکيان الإسرائيلي على تحقيقه، وقد طلبوا مراراً وتكراراً من تل أبيب أن تضع للحرب أهدافاً قابلةً للتحقيق (حتى لا يخيب أملهم في النهاية)، لكن الغضب والشعور بالانتقام أصاب قادة الکيان الإسرائيلي بالعمي في الوقت الراهن، ولن يدركوا عمق الأزمة إلا عندما ينجلي غبار الحرب.