الوقت - لم يكن في يوم من الأيام لمنطق الالتزام والحفاظ على الحقوق أو صونها حضور في استراتيجيات الظلم والاحتلال. ومع تنصيب الاحتلال الإسرائيلي الحكومة التي تنتمي إلى أقصى اليمين في مطلع كانون الثاني/يناير تصاعدت حملات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية بشكل دراماتيكي.
ففي 23 شباط/فبراير، شنت القوات الإسرائيلية غارة في وضح النهار على مركز مدينة نابلس، شمال الضفة الغربية، فقتلت أحد عشر فلسطينياً وجرحت أكثر من مئة آخرين. الأمر الذي أثار اضرابات واحتجاجات في سائر أنحاء الأراضي المحتلة. ثم، في 26 شباط/فبراير، هاجم مئات من المستوطنين قرية حوارة، غير البعيدة عن نابلس، وأحرقوا منازل وسيارات وضربوا السكان، وحرّض أعضاء في حكومة الاحتلال علناً على شن المزيد من الهجمات المماثلة. وفي أعقاب الحدث، دعا أحد أعضاء الحكومة (بتسلئيل سموتريتش) إلى محو القرية.
وامتد العنف إلى القدس الشرقية. وهناك قامت الشرطة الإسرائيلية باللجوء إلى أشكال من العقاب الجماعي: إغلاق الأحياء، وهدم منازل وإقامة نقاط تفتيش واعتقال الرجال والفتيان الفلسطينيين.
وقد أشارت "هيومن رايتس ووتش" إلى تزايد قمع السلطات الإسرائيلية الشديد للفلسطينيين في ظل الحكومة الائتلافية برئاسة نفتالي بينيت ويائير لابيد والتي تشكلت من طيف واسع من الأحزاب السياسية. وترقى ممارسات السلطات الإسرائيلية، المتخذة ضمن سياسة الحفاظ على هيمنة الإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين، إلى الجريمتين ضد الإنسانية المتمثلتين في الفصل العنصري والاضطهاد.
عام 2020 وبموجب اتفاق ائتلافي بين نتنياهو وزعيم حزب “أزرق أبيض”، بيني غانتس، بإمكان الحكومة البدء بضم جميع مستوطنات الضفة الغربية البالغ عددها 132 مستوطنة ومنطقة غور الأردن – وهو ما يساوي 30% من أراضي الضفة الغربية المخصصة لإسرائيل بموجب خطة إدارة ترامب للسلام- كما تنص الخطة على إقامة دولة فلسطينية حسب شروط معينة على الـ 70% المتبقية من الأراضي، إضافة إلى أن سلطات الاحتلال تدرس ضم مناطق استيطانية قريبة من القدس.
وبينما الأوضاع تشتعل في الأراضي الفلسطينية نتيجة الاعتداءات الصهيونية الدائمة والممنهجة يخرج مؤخراً بيان من مكتب رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وصف فيه الوجود الأردني في الضفة الغربية قبل عام 1967 بأنه وجود غير شرعي وغير قانوني معتبراً أن الأردن أقرب إلى قوة الاحتلال للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
فما وراء هذا القرار؟ ولماذا يصدر في هذه المرحلة؟
لم يكن استصدار هذا البيان طارئاً أو نتيجة أحداث آنية، لكنه مرحلة من مراحل تأزم العلاقة بين الأردن والكيان الإسرائيلي، ويندرج ضمن سياق عام درج عليه الكيان في سياسة التوسع والاستيطان، إذ إن اليمين الحاكم في تل أبيب اليوم يرسل ضد الأردن الرسالة تلو الأخرى فيما لا يجد الشركاء في الدولة العميقة لكيان الاحتلال فرصة لإثبات جدوى وإنتاجية بقاء العلاقات إيجابية مع الأردن.
أثار هذا البيان حفيظة المؤسسات الرسمية الأردنية التي تتجنب الإشارة بأي شكل لدور الأردن في الضفة الغربية قبل عام 1967 تجنباً لكل أنماط الحساسيات.
إن إصدار البيان في هذا التوقيت جزء من مخطط أكثر عمقا تضمن توجيه رسائل أبرزها ضد الوصاية الأردنية في المسجد الأقصى وفي مصليات باب الرحمة تحديداً، كما أنه يعني أمراً واحداً وهو أنه حان وقت إنهاء الوصاية الأردنية على المقدسات وهو من أكثر الملفات حساسية وذلك لطبيعة الدور المركب في الجانب الفلسطيني الأردني، إضافة إلى أن إنهاء الوصاية الأردنية يمهد الطريق لكيان الاحتلال لفرض سيطرته على القدس وبقية الأراضي الفلسطينية.
فأهداف اليمين الاسرائيلي باتت واضحة إذ تنوي حكومة الاحتلال بوضوح حسم الصراع في القدس وإلحاق القدس بالولاية الاسرائيلية علناً بسحب اليد الأردنية من الأراضي الفلسطينية، وإنهاء أي دور أردني في ما تسميه منابر اليمين الاسرائيلي "حسم الصراع".
إن الأردن أوضحت لكيان الاحتلال أنها لن تقبل حتى بضم محدود لأراضي الضفة الغربية وسوف ترد على أي خطوة بالطريقة نفسها التي كانت سترد بها على ضم من جانب واحد لجميع المستوطنات ومنطقة غور الأردن، وهو ما اعتزم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فعله بداية، كما هددت الأردن بإلغاء اتفاقية السلام الموقعة في عام 1994 مع "إسرائيل" أو خفض مستواها إذا مضت "إسرائيل" قدما بخطة الضم.
فبإمكان عمّان الضغط بها تجاه قرار الضم بعدد من الأوراق، ومن أبرزها: التخفيض الدبلوماسي مع "إسرائيل" أو سحب السفير الأردني من تل أبيب، أو طلب مغادرة السفير الإسرائيلي من عمّان، في حين ستكون خطوة وقف التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري موضوعة على الطاولة الأردنية، إضافة لوقف التنسيق الأمني والاستخباراتي.
وتوجت خطوات الأردن الخارجية تجاه قرار الضم بتحذير جاء على لسان الملك عبد الله الثاني الذي صرح لمجلة دير شبيغل الألمانية، بأنه في حال إقدام "إسرائيل" على ضم الأراضي المحتلة إلى سیطرتھا سيؤدي ذلك إلى صدام كبير مع المملكة.
وبعد أن أصدرت القيادة الاردنية تحذيراتها العلنية في المجتمع الدولي من انهيار الوضع القانوني في حال استمرار الاعتداءات والانتهاكات الاسرائيلية، جاء رد حكومة نتنياهو بالإشارة إلى عدم قانونية الإدارة الأردنية للضفة الغربية.
ومن الملفات التي أثارت الاضطراب في العلاقة بين الطرفين الأردني الإسرائيلي قضية النائب محمد العدوان الذي اتهمه الكيان بمحاولة تهريب كمية كبيرة من الأسلحة والذهب إلى الضفة الغربية، إذ أبدت سلطات الاحتلال موقفاً متشدداً، أوضحت فيه أنها لن تطلق سراحه قبل الانتهاء من محاكمته، فيما طالبت أوساط في اليمين الحاكم بأن يدفع الأردن ثمناً سياسياً ذا وزن ثقيل مقابل تحريره كالتخلي عن الوصاية الهاشمية على الحرم القدسي الشريف وبقية المقدسات الإسلامية والمسيحية.
وبررت مصادر في اليمين المتطرف هذا الطلب بأن تهمة النائب الأردني خطيرة للغاية على الصعيدين الدبلوماسي والأمني على السواء، وكان يمكن له أن يتسبب بمقتل إسرائيليين كثيرين لو نجحت خطته في تهريب الأسلحة، ولا بد من ثمن يدفعه الأردن إذا كان معنياً بإطلاق سراحه.
ومن موضوعات تأزيم العلاقة قضية مطار رامون، إذ قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في 2022 بتشغيل مطار رامون بالنقب، وبدء سفر فلسطينيين من الضفة الغربية عبره، لتدخل العلاقات الأردنية الإسرائيلية مرحلة جديدة من التأزيم.
فأزمة مطار رامون تحمل من الوجهة الأردنية أبعاداً سياسية واقتصادية، أهمها أن تشغيل المطار يشكل اعتداء على سيادة الأردن، وضربا للمعبر البري الوحيد -معبر الملك حسين- الذي يسمح للفلسطينيين بالاتصال بالعالم، وإضراراً بمصالح عمّان الاقتصادية فيما يتعلق بالقطاعات السياحية والنقل الجوي، ولا يعبر عن روح التعاون وأفق سلام بين الجانبين، وقد تؤثر على حزمة المشاريع الاستراتيجية المزمع تنفيذها بين الجانب الإسرائيلي والأردن من جانب، ودول الخليج الفارسي من جانب آخر، وخاصة سكة حديد السلام، ومشروع بوابة الأردن، ونقل الغاز الإسرائيلي عبر أنابيب الخط الأردني، وصولا إلى مصر لتسيّله وتصدره لدول أوروبية.
إن هذا الموقف الأردني تجاه قضية مطار رامون لم يكن ليستهدف الفلسطينيين في أي بعد من أبعاده، فما زال الأردن الرسمي وفق تصريح رئيس الوزراء بشر الخصاونة يؤكد التزام الأردن المطلق بدعم الفلسطينيين من أجل تحقيق حل الدولتين، وضمان الاستقرار والسلام العادل والشامل، وتسهيل عبور الفلسطينيين وانتقالهم عبر جسر الملك حسين إلى المملكة، ومنها لدول العالم، إضافة إلى العمل على تعزيز التبادل التجاري مع الفلسطينيين، وتعزيز الصادرات الأردنية إلى فلسطين، ورفض المساس بالوضع التاريخي والقانوني القائم في المسجد الأقصى المبارك. فهل يستمر تأزم العلاقة الأردنية الإسرائيلية؟ أم إن الظروف المحيطة قد تنتج حلولاً تهدئ من حدة التوتر؟ أسئلة ستبقى إجاباتها رهن خيارات الجغرافيا.