الوقت - أخيرًا تم توقيع نوع من اتفاق السلام في الشرق الأوسط، لكن هذا الاتفاق لم ينشأ بين الکيان الصهيوني وفلسطين أو الدول العربية، بل بين السعودية وإيران، اللتين تواجهان بعضهما البعض في القضايا الإقليمية منذ سبع سنوات. کما أن اتفاق السلام هذا لم يكن بوساطة الولايات المتحدة بل الصين.
يعدّ توقيع اتفاقية السلام في الشرق الأوسط في بكين بدلاً من واشنطن أو لندن، من أسوأ التطورات التي يمكن أن يتخيلها القادة الغربيون، وخاصةً أمريكا. وشهدت التحالفات والمنافسات التي هيمنت على المنطقة لعقود من الزمان فجأةً تحولًا وانهيارًا كاملين.
كانت السعودية جزءًا من حملة الضغط الأقصى ضد إيران، لكن الآن تجلس الرياض وطهران على طاولة واحدة وتوقعان اتفاق سلام معًا. والأمريكيون الذين كانوا اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط على مدى الأرباع الثلاثة الماضية من القرن، يجدون أنفسهم الآن على هامش التطورات في غرب آسيا في تغيير جذري.
والصينيون الذين لم يكن لهم سوى دور ثانوي واقتصادي في المنطقة لسنوات، حوّلوا أنفسهم فجأةً إلى قوة أمنية جديدة في المنطقة، والجميع ينظر إلى التغيرات الأمنية في المنطقة بدهشة. فماذا حدث للتحالفات التقليدية في غرب آسيا والتي جعلت الولايات المتحدة مجرد مراقب، وحوّلت الصين إلی اللاعب الحاسم في أمن المنطقة؟
استمرت محادثات السلام بين السعودية وإيران منذ عام على الأقل في العراق ثم في سلطنة عمان، لكن هذه المحادثات انتهت أخيرًا في بكين لإثبات أن الصين حلت محل أمريكا باعتبارها القوة العالمية الأولى في المنطقة.
ونقلت نيويورك تايمز عن إيمي هوثورن، نائبة مدير مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط في واشنطن، قولها: "اتفاق بكين بين إيران والسعودية اتفاق كبير. نعم، لا تستطيع الولايات المتحدة التوسط في مثل هذا الاتفاق مع إيران، لأن واشنطن ليس لها علاقات مع طهران، لكن الصين لديها علاقات وثيقة مع كل من إيران والسعودية. هذه الاتفاقية هي إنجاز للدبلوماسية الصينية وتتفوق على أي إنجاز دبلوماسي لبايدن".
في البيت الأبيض، رحّب الرئيس الأمريكي جو بايدن على ما يبدو بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، ولم يُظهر أي قلق واضح بشأن دور الصين في غرب آسيا، لكن الجميع يعرف كم يلوم الأمريكيون أنفسهم على تراجع مركزهم في الألعاب الاستراتيجية للشرق الأوسط.
سلوك أمريكا المتناقض مع السعودية
منذ أن تولى بايدن منصبه في البيت الأبيض، لعبت الولايات المتحدة لعبةً دبلوماسيةً معقدةً ومتناقضةً مع السعودية.
خلال حملته الانتخابية، وعد الرئيس الأمريكي الحالي مرارًا وتكرارًا بجعل السعودية دولةً "معزولةً" لتنظيمها اغتيال الصحفي جمال خاشقجي المقيم بالولايات المتحدة، لكنه زار الرياض قبل أربعة أشهر، لأنه سعى إلى خفض أسعار الوقود والطاقة بالتزامن مع الحرب في أوكرانيا.
ومع ذلك، لم تعلق السعودية أهميةً كبيرةً على زيارة بايدن إلى الرياض، وبعد شهر واحد من استضافتها الباردة للرئيس الأمريكي، وافق ابن سلمان على خفض إنتاج النفط وبالتالي زيادة أسعار الطاقة العالمية، على عكس رغبات البيت الأبيض، بينما ألقى الكثيرون في أمريكا باللوم على إدارة بايدن لعدم قدرتها على الحفاظ على التحالف التقليدي مع السعودية.
بدت هذه الانتقادات الموجهة لإدارة بايدن صحيحةً في أمريكا، لأن ولي العهد السعودي القوي، الذي يمتلك القوة الحقيقية في هذا البلد، قد تحوّل إلى الصينيين.
يقول "ستيفن أ. كوك"، كبير الخبراء في دراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية، في هذا الصدد: "من الواضح أن بعض الناس في الخليج الفارسي يعتبرون القرن الحالي هو قرن الصين. لقد أعرب السعوديون عن اهتمامهم بالانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون، وتذهب كمية كبيرة من نفطهم إلى الصين، وكلها علامات على أن الصين أصبحت الشريك الأول للسعودية".
کما يعتقد دانيال سي. كيرتزر، السفير الأمريكي السابق في تل أبيب ومصر، والذي يعمل الآن في جامعة برينستون، أن تغيير الديناميكيات الإقليمية، بما في ذلك الاتفاق بين الرياض وطهران، الذي توسطت فيه الصين، سيكون تحديًا لإدارة بايدن.
ويرى هذا الخبير أن "اتفاق الرياض - طهران مؤشر على مرونة الدبلوماسية الصينية التي استغلت برودة العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة، وفراغ واشنطن في الرياض".
تغيير النظام العالمي
مع ذلك، بالنسبة للعديد من صانعي السياسة الأمريكيين المخضرمين، من المقلق رؤية لعبة الأمن الصينية في غرب آسيا.
تقول "مارا رودمان"، نائبة الرئيس التنفيذي للسياسة الأمريكية والمبعوثة السابقة للبلاد إلى الشرق الأوسط في عهد أوباما: "وساطة الصين في العلاقات الإيرانية السعودية، هي أحدث تذكير بأن المنافسة على المسرح العالمي آخذة في التغير. وهذا يعني أن مجال النفوذ والمنافسة مع الصين لا يقتصر بأي حال من الأحوال على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، تمامًا كما لا يقتصر تأثير الصين على المجال الاقتصادي فقط. فالصين تدخل مجالات أمنية واقتصادية وجغرافية جديدة تتحدى أمريكا".
على الرغم من أن أمريكا لا تزال لديها أوراق رئيسية في غرب آسيا، ولديها علاقات تجارية وعسكرية واستخباراتية واسعة مع العديد من الجهات الفاعلة المهمة في المنطقة، ولکن لا شك في أنها ستواجه بعد ذلك منافسًا جادًا في المنطقة يسمى الصين.
هذا في حين أنه بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، كانت أمريكا هي اللاعب الأجنبي المهم الوحيد في المنطقة، ورغم أنه في السنوات الماضية ومنذ أن بدأت روسيا عملياتها العسكرية في سوريا عام 2015 لصالح حكومة بشار الأسد، واجهت الولايات المتحدة أيضًا تحدي وجود منافس دولي في سوريا، وهو روسيا، لكن في الخليج الفارسي لم تشهد أمريكا منافسًا سياسيًا لفترة طويلة، وفجأةً يتم توقيع الاتفاقية بين إيران والسعودية في بكين، وترى أمريكا منافسًا قويًا في الخليج الفارسي يسمى الصين.
وبعبارة أخرى، أظهر اتفاق بكين أنه في الخليج الفارسي، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، هناك جهة فاعلة أخرى تسمى الصين، والتي يجب على الولايات المتحدة أن تأخذها في الاعتبار.
يبدو أن النظام الإقليمي آخذ في التغير، وبعد الآن سيختبر الأمريكيون بشكل ملموس النظام العالمي متعدد الأقطاب، وهو نظام جديد يضغط على أمريكا في مجالات نفوذها التقليدية، ويخلق لها منافسين جديين مثل الصين.