الوقت -أقدمت كل من الجزائر والمغرب على التعبير عن غضب كل منهما، من موقعه وحالته الخاصة، تجاه السياسة الفرنسية.
وفي ضوء هذا الغضب وهذه الخلافات ،أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاثنين أنه سيواصل “المضي قدما” لتعزيز علاقة فرنسا بكل من الجزائر والمغرب ،بعيدا من “الجدل” الراهن.
وقال ماكرون خلال مؤتمر صحفي تناول فيه استراتيجيته في إفريقيا “سنمضي قدما. المرحلة ليست الأفضل لكن هذا الأمر لن يوقفني”، منتقدا من “يحاولون المضي في مغامراتهم” ولديهم “مصلحة بألا يتم التوصل” إلى مصالحة مع الجزائر.
ودعا ماكرون الإثنين في كلمة ألقاها حول السياسة الفرنسية الجديدة في إفريقيا إلى التحلي بـ”التواضع” و”المسؤولية”.
وفي توصية جرى إقرارها بغالبية كبيرة نهاية كانون الثاني/يناير، حض البرلمان الأوروبي السلطات المغربية على “احترام حرية التعبير وحرية الإعلام” ووضع حد ل”المضايقة التي يتعرض لها الصحفيون”. كما أعرب عن “قلقه العميق” من “الادعاءات التي تفيد بأن السلطات المغربية أفسدت أعضاء في البرلمان الأوروبي”.
ورأت بعض الأصوات في المغرب أن فرنسا تقف وراء توصية البرلمان الأوروبي فيما كانت العلاقات متوترة أصلا بين باريس والرباط وخصوصا في ما يتعلق بوضع الصحراء الغربية.
وقال الرئيس الفرنسي “هل كان ذلك صنيعة حكومة فرنسا؟ كلا! هل صبّت فرنسا الزيت على النار؟ كلا! يجب أن نمضي قدما رغم هذه الخلافات”.
من جهتها، استدعت الجزائر سفيرها لدى فرنسا "للتشاور" في 8 شباط/فبراير للاحتجاج على "الدخول غير القانوني" عبر تونس للناشطة الفرنسية الجزائرية أميرة بوراوي.
وتابع ماكرون "أعلم أنه يمكنني الاعتماد على صداقة والتزام الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون. سنحرز تقدما معه أيضا".
وأضاف “إنها طريقة فهمنا المريحة للواقع في الماضي. قياس تأثيرنا من خلال عدد عملياتنا العسكرية، أو الاكتفاء بروابط مميزة وحصرية مع قادة، أو اعتبار أن أسواقا اقتصادية هي أسواقنا لأننا كنا هناك من قبل”.
وتابع ماكرون خلال الكلمة التي ألقاها من قصر الإليزيه الاثنين عشية جولة إفريقية “يجب أن نبني علاقة جديدة متوازنة ومتبادلة ومسؤولة” مع دول القارة الإفريقية”.
ويباشر الرئيس الفرنسي الأربعاء جولة تشمل أربع دول في وسط إفريقيا هي الغابون وأنغولا والكونغو وجمهورية الكونغو الديموقراطية. وخلال محطته الأولى في ليبرفيل سيشارك في قمة حول حفظ غابات حوض نهر الكونغو.
ويأتي خطاب ماكرون بعد نهاية عملية برخان لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل واضطرار القوات الفرنسية إلى الانسحاب من مالي وبوركينا فاسو اللتين يحكمهما مجلسان عسكريان مع عداء واضح تجاه فرنسا.
على الصعيد العسكري، قال ماكرون إن “التحول سيبدأ في الأشهر المقبلة عبر خفض ملموس لعددنا وحضور أكبر في القواعد (العسكرية) لشركائنا الأفارقة”، واعدا بأن “تبذل فرنسا مزيدا من الجهد على صعيد التدريب والتجهيز”.
وتنشر فرنسا نحو ثلاثة آلاف عسكري في المنطقة وخصوصا في النيجر وتشاد بينما كان عددهم 5500 عنصر قبل فترة قصيرة. لكنها تريد إعادة نشر عسكرييها متوجهة نحو دول خليج غينيا التي عمتها موجة جهادية.
في تلك المنطقة وفي مجمل القارة، يلقى نفوذ فرنسا والدول الغربية منافسة كبيرة من الصين وروسيا. فثلاث من الدول الأربع التي سيزورها الرئيس الفرنسي أي الغابون والكونغو وأنغولا امتنعت الخميس الماضي عن التصويت على مشروع قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة يطالب بانسحاب القوات الروسية من أوكرانيا.
وأضاف ماكرون إن إفريقيا ليست “منطقة نفوذ” ويجب أن ننتقل من “منطق” المساعدة إلى منطق الاستثمار.
ولخطاب الإثنين صدى لخطاب ألقاه ماكرون في واغادوغو في 2017 أكد فيه عزمه على طي صفحة سياسة باريس الإفريقية في مرحلة ما بعد الاستعمار التي شهدت تواطؤا سياسيا وعلاقات متوترة ومد اليد للشباب الإفريقي الذي يعتمد موقفا مشككا جدا حيال فرنسا.
وكان الرئيس الفرنسي قدم نفسه على أنه قائد جيل جديد منددا أمام 800 طالب بـ”الجرائم الأكيدة” للاستعمار داعيا إلى “علاقة جديدة” مع إفريقيا وهو ميثاق ينوي توسيعه ليشمل أوروبا.
في تموز/يوليو قام ماكرون بجولة شملت الكاميرون وبنين وغينيا بيساو. وينوي مواصلة زياراته للقارة الإفريقية “كل 6 أشهر تقريبا لا بل أقل”.
وحسب العديد من المحللين أنه لم تعد المصالح الفرنسية تخفي مناوراتها، بل أضحت تعلنها أمام الملأ وفي وضح النهار .
من دون شك إن أزمة التأشيرات بين باريس والرباط، وباقي العواصم المغاربية، "ولدت نوعا من الكراهية في المغرب لكل ما هو فرنسي"، حسب ما أدلى به الكاتب المغربي الفرنسي الطاهر بن جلون، ففي حوار له مع المجلة الفرنسية "جون أفريك" صرح بنجلون "أن قصة التأشيرة كانت مهينة حقا للجميع وشكلا من أشكال العقاب، ولم تكن خطوة جيدة من جانب ماكرون ووزير داخليته" مبرزا أنه حاول من جانبه تنبيه الرئيس الفرنسي، لكن الأخير لم يرد أن يعرف شيئا، لذلك كان لا بد من استمرار التوتر.
لم يكد ينتصف شهر ديسمبر 2020 حتى لاحت بوادر انفراج تؤشر نحو "نهاية الأزمة" بين البلدين، وجاءت على لسان رئيسة الدبلوماسية الفرنسية من الرباط التي أعلنت "إنهاء قيود التأشيرة".
وبعدها تفاءل الناس معتقدين أن الأزمة أصبحت خلفهم، قبل أن تتجدد اليوم على مستويات أخرى مختلفة. هو نفس ما وقع في الجزائر بعد الزيارة التاريخية لماكرون.
لا خلاف أن من تداعيات الأزمة الروسية – الأوكرانية، تفاقم أزمة إمدادات الطاقة، التي تعاني منها اليوم بلدان أوروبا.
وقد دفعت هذه الأزمة غير المسبوقة ساكن قصر الإليزيه إلى الهرولة صوب الجزائر، وإن كان ماكرون عند وصوله في الشهر الماضي إلى الجزائر، أصر على إنكار أن زيارته لها صلة بالغاز الجزائري.
يومها بدا أن باريس تسير باتجاه التخلي عن المغرب والتضحية بعلاقاتها مع الرباط لصالح الجزائر، حيث سعى ماكرون إلى تنفيذ برنامج حثيث من أجل تحسين العلاقة مع حكام الجزائر. بهذا الصدد قال الكاتب المغربي - الفرنسي الطاهر بنجلون إن الرئيس إيمانويل ماكرون، إزاء موقف الاستقطاب بين الجزائر والمغرب، "لا يفهم في العالم العربي بشكل عام، والمغرب العربي بشكل خاص، على عكس أسلافه السابقين، شيراك وساركوزي وهولاند".
لذلك ما لبث ماكرون أن سقط في لعبة "التوتر المستمر الذي يحتاج إليهإ النظام الجزائري"، في علاقته مع المغرب منذ الستينيات من القرن الماضي، وفق بنجلون.
أما بخصوص موقف باريس من قضية الصحراء الغربية، فإن المغرب حازم في هذا الموضوع، حيث قال الملك بوضوح في إحدى خطاباته إن العلاقات الثنائية لا يمكن أن تؤجل مسألة وحدة أراضي المغرب، مضيفا "إنها مسألة مقدسة بالنسبة لنا، ومسألة شرف".
لكن فرنسا لا تجد اليوم في حساباتها أوراق مساومة تدفع بها للاعتراف بمغربية الصحراء، مثل ما حصل للولايات المتحدة الأمريكية في الاتفاق الثلاثي الذي وقعته مع المغرب وإسرائيل (المؤدي لتطبيع المغرب مع إسرائيل).
هي ملفات حسّاسة، ربما لن تتوقف عن التوالد، لتُغرق علاقات فرنسا في مستنقع مستعمراتها السابقة بالمنطقة المغاربية، ناهيك عما يحصل منذ فترة، من تمرد وقطع لحبل الصرة الذي يربطها بمستعمراتها الأخرى في غرب ووسط إفريقيا.
لكن ما يجري حاليا من توتر فرنسي - جزائري، يقابله بالموازاة وفي نفس الفترة توتر فرنسي - مغربي، يضر بالعلاقات التاريخية والاقتصادية والبشرية التي تجمع فرنسا بالبلدين، الجزائر والمغرب.
ما يدفع إلى التساؤل، هل علينا أن نستوعب الفشل لدى قصر الإليزيه في لعبة التوازن الدقيقة بين الشقيقين اللدودين الجزائر والمغرب، والذي من شأن عدم استدراكه سريعا، إفراز إشكالات خلافية أخرى، ربما تكون أكثر حساسيّة وخطورة في بنية العلاقات والتداعيات المستقبلية للسياسة الخارجية الفرنسية.
تبقى إشارة عابرة، لا يجب تناسي أن ملف التوتر مع الجارين الجزائر والمغرب وفرنسا يتصل بمسألة حقوق الإنسان.
وإن كانت ملفات التوتر منفصلة فإنها تلتئم عند تناولها من لدن الطرفين المتنازعين منذ حوالي نصف قرن حول قضية الصحراء.
فحكام الجزائر يزعمون أن أصابع اللوبي المغربي خلف ما يحصل من تعكير العلاقات الجزائرية مع باريس، إذ تضمن تقرير جزائري في الموضوع أن: "الجميع يعلم أنه يوجد على مستوى المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي، خطة تقضي بتقويض العلاقات الجزائرية- الفرنسية، يتم تنفيذها من قبل عملاء سريين و(خبارجية) وبعض المسؤولين على مستوى المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي ووزارة الخارجية الفرنسية، وكذا بعض المستشارين الفرنسيين من أصل جزائري لا يخفون ولعهم وتبجيلهم للمخزن (النظام المغربي)".
وبالموازاة لا تتوقف الرباط عن اتهام النظام الجزائري بالتسبب في التأزم وخلق التحديات الأمنية وسيادة الاضطراب وعدم استقرار المنطقة.
ويبقى التفاؤل الفرنسي حاضرا، مستبعدا حدوث قطيعة مغربية أو جزائرية مع باريس، فالجسور الممتدة حسب اعتقاد فرنسا بين الضفتين أقوى وأمتن من الأمواج المتلاطمة لمثل هذه الأزمات العابرة، وأن فرنسا لا بد أن تستعيد المبادرة وتضطلع بدورها التقليدي المطلوب.