الوقت- الرمال الأفريقية لا تزال تأكل فرنسا شيئاً فشيئا، فالمستعمرات الفرنسية السابقة بدأت تثور على باريس ومالي ليست آخرها، وهو ما دفع صحيفة لوفيغارو الفرنسية حتى تتساءل في مقابلتها مع المراسل والمصور الفرنسي باتريك روبر، عن سبب تزايد المشاعر المعادية لفرنسا في القارة الأفريقية، وخصوصاً أن هذا الصحفي لديه باع طويل في العمل بالقارة الصفراء، فهو الذي سافر عبر أفريقيا منذ عام 1980 وغطى العديد من النزاعات وأُصيب بجروح خطيرة في ليبيريا عام 2003 وحازت أعماله التي نشرتها أكبر المجلات على العديد من الجوائز الدولية، وبالتالي يعرف القارة الأفريقية عن كثب ويُعتبر شخصية محوريّة في العمل بها، وهو ما جعل المقابلة معه ذات أهمية كبيرة لفرنسا وتؤكد أن باريس والإعلام فيها يأخذ ملف أفريقيا على محمل الجد ويخاف على نفوذه فيها.
هذا التحرك الإعلامي جاء بعد أن طالبت دولة مالي مجلس الأمن الدولي بعقد اجتماع طارئ لوضع حد للأعمال العدوانية الفرنسية والتي تتمثل في انتهاك سيادتها ودعم جماعات إرهابية والتجسس عليها. وقالت وزارة الخارجية المالية، إن البلاد تحتفظ بحقها في الدفاع عن النفس، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، إذا واصلت فرنسا تصرفاتها، واستنكرت الانتهاكات المتكررة وكثيرة الحدوث" للمجال الجوي المالي من قبل القوات الفرنسية وتحليق الطائرات الفرنسية التي تقوم بأنشطة تعد بمثابة تجسس ومحاولات الترهيب.
وأوضحت الخارجية أن السلطات المالية لديها عدة أدلة على أن هذه الانتهاكات الصارخة للمجال الجوي المالي قد استخدمت من قبل فرنسا لجمع معلومات استخبارية لمصلحة ما وصفتها بالجماعات الإرهابية العاملة في منطقة الساحل وإلقاء الأسلحة والذخيرة إليها.
وفي منتصف الشهر الجاري غادر آخر جنود قوة برخان الفرنسية دولة مالي بعد مرور تسعة أعوام على وجودهم فيها، بالتزامن مع تسلم البلاد لمقاتلات عسكرية من روسيا وذلك في ظل تنامي علاقات الجانبين في مختلف المجالات. حيث تتهم فرنسا وحلفاؤها السلطات المالية بالاستعانة بخدمات مجموعة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة في الحرب ضد الجماعات الإرهابية في البلاد حيث ساعدت موسكو بامكو للقضاء على هذه الجماعات، لكن الحكومة المالية تنفي ذلك وتتحدث عن تعاون قديم بين دولتين.
من الصعب على أحد أن يتوقع أن سكان أفريقيا يحبون أو يتعاطفون مع فرنسا، وخصوصاً في ظل ماضيها الاستعماري المؤلم في هذه القارة، فهي التي كانت تنهب ثرواتهم من النفط والألماس والمواد الثمينة إضافة إلى الثروة الحيوانية لديهم، وتأخذهم هم السكان ليعملوا لديها مجاناً تحت بند العبودية ولاحقاً كأسرى، وتضعهم في جيشها وتزج بهم في جبهات القتال التي لا ترسل إليها قواتها الفرنسية، وبالتالي من المجنون الذي يتوقع أن الأفارقة يحبون فرنسا؟ وبعد التحرر من الاحتلال الفرنسي هيّمنت شركات باريس الكبرى على موارد الدول الأفريقية عبر حملات الفساد المنظمة والتي غزت بها الطبقة الحاكمة في هذه الدول، وعندما كانت دولة ما ترفض الهيّمنة الفرنسية تقوم باريس بتغذية الصراعات العرقية والدينية والأثنية فيها ما يشعل حرباً أهلية لا تنتهي حتى ترضخ هذه الدولة لشروط ومطالب باريس.
جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في القارة الأفريقية أظهرت مدى تأثر نفوذ باريس في هذه القارة، حيث اختصرت جولته على زيارة ثلاث دول صغيرة وفقيرة وهي بنين والكاميرون وغينيا بيساو، وجميعها خاضعة لسلطات فاسدة من جهة وتدعمها باريس من جهة أخرى.
وما تعيشه فرنسا اليوم في أفريقيا أسوأ مرحلة في علاقتها بمستعمراتها القديمة في القارة الأفريقية ولم يكن أحد يتخيل أن دولة مثل مالي مثلاً تخرج عن الهيّمنة الفرنسية وتقول لا لباريس بل تطلب منها مغادرة البلاد فورا.
خسارة فرنسا لمستعماراتها القديمة سيجعل منها ضعيفة جداً على المستوى الدولي وذلك لعدةِ أسباب أبرزها العسكري لأنها ستفقد نفوذاً عسكرياً مهماً في القارة الأفريقية كان يجعل منها ثقلاً مهما في المعادلات الدولية، ثم على المستوى السياسي لأن فرنسا كانت تمتلك أصواتاً كثيرة لمصلحتها على مستوى المحافل الدولية ولا سيّما الأُمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان وغيرها من المنظمات، والأهم هو المستوى الاقتصادي لأن الخيرات التي كانت تنهبها الشركات الفرنسية ستتوقف عن القدوم إلى باريس، وستذهب إلى دول أُخرى تعرف قيمتها وتعطي شعوب هذه الدول حقوقها في خيرات بلادها، وستتصاعد الخسائر الفرنسية حتى تصل إلى المستوى الإنساني لأنه من الممكن أن تقدم هذه الدول شكوى رسمية ضد باريس وجرائمها لديها وبالتالي تخسر فرنسا سمعتها أولاً وأموالها ثانياً لمصلحة هذه الدول.