الوقت- عقب إجراءات استثنائيّة من الرئيس التونسيّ قيس سعيد لمواجهة حالة الشلل والانقسام السياسيّ التي تعيشها البلاد ومؤسسات الدولة، والتي يصفها بأنّها متوافقة مع الدستور وضروريّة في ظل الوضع الوبائيّ الخطير المرتبط بجائحة فيروس كورونا المستجد، أعلن مؤخراً عن حل المجلس الأعلى للقضاء التونسيّ الذي يُعتبر هيئة دستوريّة تضمن حسب صلاحياتها حسن سير القضاء واستقلالية السلطة القضائيّة وفقاً لأحكام الدستور التونسيّ، حيث دخل الرئيس سعيد صراعاً مع هذا المجلس منتقدا آداءه وتعاطيه مع قضايا الفساد، واصفاً إياه بأنه "يخدم أطرافا معينة بعيداً عن المصلحة العامة".
مجلسٌ فاسد
بعد أن تحول المجلس الأعلى للقضاء التونسيّ إلى مكان لبيع المناصب ورسم مسار الحركة القضائية بناء على الولاءات، بحسب توصيف الرئيس التونسيّ، الذي أكّد مراراً على أنّه لا يمكن تحقيق أهداف الشعب التونسيّ في العدل والحرية إلا "بقضاء مستقل"، ولا بد من توفير كل العناصر التي تمكن القضاة من القيام بمهامهم السامية في ظروف تحفظ لهم استقلاليتهم.
وفي الوقت الذي رفض فيه المجلس الأعلى للقضاء التونسيّ في وقت لاحق قرار قيس سعيد وتعهد بمواصلة مهامه، لم يخفي سعيد في الفترة الأخيرة نقمته على تصرفات القضاء حيث أشار أنّه "لا يمكن بحال القبول بتحول القضاء إلى مشروع، أو أن يتحول القضاة لمشرعيّن والأخذ بآرائهم والاستلهام من حلولهم، فلا توجد حكومة قضاة أو دولة قضاة بل هناك قضاة للدولة التونسية يطبقون القانون التونسيّ".
"القضاء يخدم أطرافا معينة"، على هذه العبارة ركّزت تصريحات الرئيس قيس سعيد وفقاً لتسجيل فيديو نشرته رئاسة الجمهورية التونسيّة، عقب تصريحاته سابقة عكست الرغبة في حل المجلس الأعلى للقضاءحيث قال حينها إنّه "مع عدم وجود محكمة عُليا في البلاد، لأنّ محكمة الشعب هي المحكمة العليا"، مضيفاً أنّه "لم يعد ينطلي عل الشعب التونسيّ الأراجيف والأكاذيب والادعاءات من قبل البعض".
وخلال زيارة للرئيس للتونسيّ إلى مقر وزارة الداخلية، قال: "ليعتبر المجلس الأعلى للقضاء التونسيّ نفسه في عداد الماضي"، موضحاً أنّهم سيعملون على وضع مرسوم مؤقت للمجلس، عقب حديثه عن أن عددا من القضاة حصلوا على أموال وممتلكات تبلغ قيمتها المليارات، متحدثاً أن هؤلاء مكانهم الطبيعيّ هو المكان الذي يقف فيه المتهمون، حيث إنّ المُطلعين على الجانب السياسيّ في البلاد، يعلمون مدى الخفايا والأسرار التي يملكها بعض الساسة التي يتستر عليهم القضاء ويمنع محاكمتهم، وهي ملفات مرهونة بمدى استقلاليّة القضاء لفتح الكثير من التحقيقات وكشف العديد المعلومات، بحسب قيس سعيد.
معركة شرسة
لا يُخفي الرئيس التونسيّ الذي أعلن في 25 تموز/ يوليو المنصرم تعليق أعمال البرلمان وإقالة رئيس الحكومة وتولي السلطات في البلاد، معركته ضد جماعة الإخوان ومحاربته لأذرعهم في كافة المؤسسات الحساسة، وقد اعتبر أنّ بعض العواصم الغربيّة تحت تأثير "بعض الدوائر الماليّة" تُريد أن تقول إنّ الحكومة التونسيّة لا تحترم القانون، وتساءل حينها: “هل تم وضع أحد في السجن من أجل رأيه؟"، فيما تزعم جماعة الإخوان المسلمين ومن لف لفها في البلاد، أنّها تقوم بما تسميه "انتفاضة كرامة" ضد "انقلاب" يتكلم باسم الشعب ويدوس مجددا على كرامته، مدعية أنّ "روح الثورة ما زالت تنساب في قلوبهم وفي عقولهم، وأنّه لا خيار آخر إلا الديمقراطيّة".
وفي هذا الصدد، اعتبر يوسف بوزاخر رئيس المجلس الأعلى للقضاء في تونس، والذي يتمتع بالاستقلال الاداري والمالي والتسيير الذاتيّ وله السلطة الترتيبية في مجال اختصاصه"، وفق الفصل الأول من القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء المصادق عليه عام 2016، أنّ أن قرار الرئيس بحل المجلس "غير قانونيّ" ومحاولة لوضع القضاء "في مربع التعليمات" الرئاسيّة.
وفي رد على قيس سعيد، قال أنّ المجلس – الذي يتكوّن من أربعة هياكل وهي مجلس القضاء العدلي، ومجلس القضاء الإداري، ومجلس القضاء المالي، والجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة- ليس من الماضي، بل هو من الحاضر والمستقبل، مؤكّداً أنّ "القضاة لن يسكتوا على هذا التدخل المباشر ومحاولة وضعهم في مربع التعليمات"، في وقت بتتهم فيه القضاء بالتستر على ملفات هامة وحساسة جداً بعضها يُهدد الأمن القوميّ للبلاد، منها عمليات الإخوان المسلمين في أكثر من بلد والعلاقة الوطيدة بالتنظيمات الإرهابيّة والمتشدّدة، وخاصة ملف الاغتيالات والجهاز السريّ لحركة النهضة ناهيك عن ملفات الفساد الماليّ وما أكثرها، حيث يعتقد البعض أنّ الأيام القادمة ستشهد توقيف العشرات من قيادات الإخوان لأنهم مدانون بالفعل في قضايا خطيرة للغاية، وكلها ملفات أمن قوميّ بامتياز ولا تتطلب مجهودًا كبيراً لإثباتها.
وبمناسبة عملية "تطهير القضاء" التي أطلقها قيس سعيد، وبالتزامن مع ذكرى اغتيال المناضل السياسيّ اليساريّ شكري بلعيد في السادس من شباط/فبراير 2013، تظاهر التونسيون بالتشارك مع منظمات "الاتحاد العام التونسي للشغل" و"الهيئة الوطنية للمحامين التونسيين" و"الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان"، والذي قُتل على أيدي إسلاميين متطرفين ما أثار أزمة سياسية انتهت بخروج حركة النهضة الإخوانيّة من الحكم ودفع نحو إطلاق حوار وطنيّ بين كافة المكونات السياسية وتم الاتفاق على تشكيل حكومة "تكنوقراط" أو خبرات أمنت وصول البلاد إلى الانتخابات عام 2014، ومنذ ذلك التاريخ فتح القضاء تحقيقا ولم يصدر أحكامه في القضية حتى اليوم، ويتهم الرئيس سعيّد بعض القضاة بالتلاعب بهذا الملف في النيابة والمحاكم.
وما ينبغي ذكره أنّ البلاد لم تشهد استقراراً طويلاً منذ "الثورة التونسيّة" التي اندلعت بعد قيام بائع الفاكهة محمد البوعزيزيّ، البالغ 26 عاما، بإضرام النار في نفسه في 17 ديسمبر / كانون الأول عام 2010، احتجاجاً على معاملة الشرطة له في بلدة "سيدي بوزيد" وسط تونس، حيث أطلقت وفاة البوعزيزي العنان لسخط كبير ومظاهرات حاشدة ضد الفقر والبطالة والقمع، وارتد تأثير تلك الاضطرابات الشعبيّة خارج الحدود التونسيّة، ما أدى إلى ما يُطلق عليها "ثورات الربيع العربيّ" التي أفرزت للأسف دماراً واضطراباً أكبيراً للغاية في العالم العربيّ، وحروباً لم تنتهِ إلى الآن في بعض الدول.
ختاماً، يحارب قيس سعيد بيد من حديد ما يمكن تسميته "سرطان جماعة الإخوان" المصنفة في كثير من الدول "جماعة إرهابيّة" في مؤسسات الدولة، رغم الضغوط الهائلة التي يتعرض لها، وقد كشف الرئيس التونسيّ محاولة اختراق رئاسة الجمهورية من خلال الدفع باتجاه تعيين مستشارين يدينون بالولاء لمشيخة الإخوان وعلى رأسهم الغنوشي المدين بالولاء للتنظيم الدوليّ، لهذا من غير المتوقع أن يتخلص هذا البلد بسرعة من هذه المعضلة بالتزامن مع الوضع الاقتصادي الذي أرهق كاهل الشعب التونسيّ.