الوقت- مجدداً، تؤكّد الإدارات الأمريكيّة المتعاقبة المثل الشعبيّ العربيّ الذي يقول: "من يجرَّب المجرَّب، فعقله مخرَّب"، حيث نشرت صحيفة "إل سالتو دياريو" الإسبانيّة تقريراً أوضحت فيه أنّ الخطاب الديمقراطيّ الأمريكيّ لا يحمل بشائر الخير بالنسبة للعرب بشكل عام والفلسطينيين على وجه الخصوص، كما أنّه ينبئ باستمرار السياسة الأمريكيّة المعهودة المتعلقة بتسليح الكيان الصهيونيّ المجرم والدفاع عن مصالحه في المنطقة، وبناء على ذلك خابت الكثير من التوقعات وأولها الصادرة عن السلطة الفلسطينيّة، والتي علقت آمالاً عريضة على الإدارة الأمريكيّة الجديدة، لكنها اصطدمت بالواقع السياسيّ الذي يقول أنّ واشنطن لا يمكن أن تتخلى عن دعم الصهاينة المحتلين بشكل لا متناهٍ، على حساب الحقوق الوطنيّة للشعب الفلسطينيّ، رغم علمها اليقينيّ أنّ الاحتلال قائم على الإرهاب المنظم، في ظل دعم الإدارة الامريكية المتعاقبة الاحتلال والكراهية الراسخة والدائمة في المنطقة بما يخدم مصالحها، ويفصل شرق الوطن العربيّ عن مغربه.
سياسات عدائيّة
خابت كل التحليلات التي اعتقدت للحظة أنّ واشنطن يمكن أن تغير سياساتها العدائيّة تجاه العرب وبالأخص الفلسطينيين، وفشل الكثير من المحللين الذين كانوا يأملون أن تقوم إدارة بايدن بإصلاح الأخطاء التي ارتكبتها إدارة الرئيس الأمريكيّ السابق دونالد ترامب، في إدراك الوقائع والتعلم من التاريخ، فعندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية والكيان الصهيونيّ الإرهابيّ، لا يمكن لواشنطن بغض النظر عمن يدير بيتها الأبيض، أن تتخلى عن طفلها المُدلل في المنطقة، باعتبار أنّ الكيان الصهيونيّ المعتدي يمثل المعسكر الغربيّ والأمريكيّ في المنطقة، والحامي لمصالحه في الشرق الأوسط، وما من أحد يجهل حجم الدعم العسكريّ والسياسيّ والاقتصاديّ الذي يتلقاه العدو المُستبد من الإدارات الأمريكيّة منذ نشأة الدولة المزعومة في 14 أيار 1948 بعد انتهاء الانتداب البريطانيّ على فلسطين.
وقد أثار التقرير الإسبانيّ نقطة مهمة جداً، حيث أشار إلى أنّ الاختلاف الواضح بين الديمقراطيين والجمهوريين في الملف الفلسطينيّ يقتصر على الدلالات والخطاب فقط وليس في السياسة، وهذا يبدو جلياً في الخطاب الرسميّ للإدارة الديمقراطية بشأن فلسطين، مقابل السياسات المتبعة على أرض الواقع، وهذا ما تؤكّده الأبعاد التاريخيّة، التي تدفع شتى الإدارات الأمريكيّة للدفاع الدائم عن مصالح الكيان الصهيونيّ، وحتى في أشد لحظات الخلاف بين واشنطن وتل أبيب، حيث إنّ الولايات المتحدة بقياداتها المتعاقبة لم تتجاوز "الخطوط الحمراء" أبداً، في رعاية المصالح الصهيونيّة على حساب العرب وتحديداً السوريين واللبنانيين والفلسطينيين أصحاب الأراضي العربية التي يحتلها العدو الغاشم.
والدليل على ذلك، ما نوه إليه التقرير، حول أنّ التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الأمريكيّ، أنتوني بلينكن خلال مقابلة مع شبكة "cnn" في الثامن من شباط الماضي، تُعيدنا إلى السياسة الخارجية السابقة للولايات المتحدة في ظل الإدارات الديمقراطية السابقة، فقد حاول من خلال العبارات التي استخدمها، الابتعاد عن النهج العدائيّ لوزير الخارجيّة السابق في إدارة ترامب، مايك بومبيو.
والمثير للاهتمام أنّ بلينكن، اعترف بطريقة مباشرة بعدم شرعيّة احتلال مرتفعات الجولان السوريّ من قبل الكيان الصهيونيّ، لكنه في الوقت ذاته أظهر دعم الولايات المتحدة لهذا الكيان الأرعن، بقوله: "بغض النظر عن الجوانب القانونية لهذه القضية، فإنّ هذه المرتفعات مهمة للغاية لأمن الكيان الصهيونيّ من الناحية العمليّة"، ما يُظهر الدعم غير المحدود لتل أبيب من قبل ساسة واشنطن رغم الاعتراف الأمريكيّ بإجرامها وعدوانها واحتلالها.
وفي هذا الشأن، لفتت صحيفة "إل سالتو دياريو" الإسبانيّة، إلى أن موقف بومبيو، الذي اعتبر انتهاكاً صارخاً للقانون الدوليّ، قد أدين بشدة من قبل العرب والفلسطينيين، ولقي انتقادات واسعة من قبل مختلف الحكومات والمنظمات الدوليّة، لكن موقف بلينكن لم يحظ باهتمام وسائل الإعلام، رغم أنّه اعترف بأهمية قضية الشرعيّة، لكنه تغاضى عنها لمصلحة قضية "الأمن الصهيونيّ"، والتي بالتأكيد تغلب على القانون الدوليّ وحقوق الشعوب في الانعتاق من الاحتلال بالنسبة للولايات المتحدة، وبكل وقاحة دافع وزير الخارجية الأمريكيّ عن الاحتلال الصهيونيّ الذي يدافع عنه الجمهوريون بقوة منذ عهد بيل كلينتون (الرئيس الـ42 للولايات المتحدة خلال الفترة ما بين عامي 1993 و 2001).
وهنا لا بد من الإشارة إلى تصريحات أنتوني بلينكين، التي أكّد فيها مواصلة اعتراف واشنطن بالقدس المحتلة "عاصمة للكيان" وبقاء السفارة الأمريكيّة في المدينة المقدسة المحتلة، وذلك خلال إجابته عن أسئلة أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكيّ، في جلسة للجنة العلاقات الخارجيّة، من أجل التصديق على ترشيحه لتولي حقيبة الخارجية في الإدارة الأمريكيّة الجديدة، ما أثار حينها غضب الفلسطينيين وقياداتهم.
ويؤكد التقرير بما لا يحمل مجالاً للشك أنّ الإدارة الأمريكيّة الحالية لجو بايدن، تتبع النهج نفسه الذي من شأنه أن يسمح للولايات المتحدة بتقديم نفسها كطرف محايد ووسيط نزيه لـ "السلام"، بينما تساعد الاحتلال الصهيونيّ بكل ما أوتيت من قوة على تحقيق أهدافه الاستراتيجيّة المرتبطة بمصالح واشنطن على حساب الشعب الفلسطينيّ والعربيّ.
اختلاف ظاهريّ
في الوقت الذي اعتبرت فيه المصادر أن الاختلاف الظاهريّ بين الخطاب الديمقراطيّ والجمهوريّ فيما يتعلق بالقضيّة الفلسطينيّة يعتبر ظاهرة جديدة نسبياً بالنسبة للولايات المتحدة، بيّنت أنّ إدارة الرئيس الجمهوريّ، جورج بوش الأب، هي التي قامت في سنة 1991 بوضع الرواية الديمقراطيّة الحاليّة حول فلسطين، وفي نهاية حرب الخليج الأولى (الحرب العراقيّة الإيرانيّة)، دافع بوش عن المحادثات متعددة الأطراف بين الكيان الصهيونيّ والدول العربيّة في العاصمة الإسبانيّة مدريد، ولكن بعد بضع سنوات تغير الخطاب الأمريكي تماماً.
إضافة إلى ذلك، ساهمت هجمات الحادي عشر من أيلول عام 2001 في الولايات المتحدة، في تعويض ما يسمى "خطاب السلام" في أدبيات السياسة الخارجيّة للجمهوريين، بخطاب جديد مكرّس بشكل علني ما يقولون إنّه "مكافحة الإرهاب"، وقد استغل الكيان الصهيونيّ بخبث الخطاب والموقف الأمريكيّ الجديد تجاه الشرق الأوسط لتقديم نفسه على أنّه شريك مباشر فيما تسميه واشنطن "الحرب العالميّة على الإرهاب".
في المقابل، عادت إدارة الرئيس الأمريكيّ الأسبق باراك أوباما، بسرعة إلى الموقف الأمريكيّ التقليديّ بعد غزو وتدمير العراق سنة 2003، لمنع انهيار القيادة السياسيّة العالميّة للولايات المتحدة، من خلال اقتراح التوسط فيما تسمى "عملية السلام في الشرق الأوسط"، حيث حاول أوباما استعادة مكانة أمريكا باعتبارها "صانع سلام"، بيد أنّ إدارته عولت على الخطابات والشعارات الرنانة وإلقاء اللوم باستمرار على الفلسطينيين، مع تذكير الكيان الصهيونيّ بمسؤولياته تجاه أبناء البلد في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وأضاف التقرير إنّ خطاب أوباما في العاصمة المصرية القاهرة عام 2009 لا يزال أكبر دليل على الهفوات الأخلاقيّة والنقاط القانونيّة العمياء في السياسة الخارجية الأمريكيّة، وخاصة في عهد الإدارات الديمقراطيّة، حيث كشف خطابه الذي كان يهدف إلى الإعلان عن نقطة تحول في نهج واشنطن تجاه منطقة الشرق الأوسط، بشكل كبير إلى الاستثناءات في التحيز الأمريكيّ الواضح تجاه الكيان الصهيونيّ القائم على التلاعب العاطفيّ والتحريفات التاريخيّة.
ومن الجدير بالذكر، أنّ أوباما أصر على أنّ الفلسطينيين يجب أن يتخلوا عن العنف وفق ادعائه في ظل إظهار القليل من التعاطف، في محاولة فاشلة لجعل الفلسطينيين ومقاومتهم المشروعة ضد الاحتلال وجرائمه "عقبة حقيقية" أمام أيّ "عملية سلام" عادل في الصراع، كما أصبح أسلوب "إلقاء اللوم على الضحية" محوراً مهماً في السياسة الخارجية الأمريكية، وهي نقطة يشترك فيها الديمقراطيون والجمهوريون على حد سواء، وفق الصحيفة.
يُذكر أن التقرير الإسبانيّ، ركز على أسلوب الحزبين الأهم في الولايات المتحدة في التعاطي مع القضية الفلسطينيّة، وأوضح أنّه بينما يتجاهل الجمهوريون حقوق الفلسطينيين وحتى وجودهم أحياناً، فإنّ الديمقراطيين الذين يواصلون دعم الكيان الصهيونيّ بنفس القدر يستخدمون لغة أكثر اعتدالاً تجنبا لإثارة الجدل، رغم أنّهم يعتبرون أصحاب الأرض في فلسطين محرِّضين على العنف، بالتزامن مع قيام قوات الاحتلال الصهيونيّ المجرم بارتكاب أبشع الجرائم بحق الفلسطينيين.
وبذلك، فإنّ الولايات المتحدة متى شاءت تستطيع انتهاك القانون الدوليّ الذي أصبح حبراً على ورق في أيامنا هذه، حفاظاً على "الأمن الصهيونيّ"، وحتى مع اعترافهم بالحدود المتعارف عليها دوليّاً، فإن هذه الحدود مرنة لاستيعاب المصالح الاستراتيجيّة والتفوق العسكريّ النوعيّ للكيان الغاصب في الشرق الأوسط، ولا تكف الولايات المتحدة عن تكرار أنّ الكيان الصهيونيّ الحليف الاستراتيجيّ الأهم والطفل المُدلل عندها في المنطقة، وهذا ما أكّده وزير الدفاع الأمريكيّ الأسبق خلال لقائه نظيره الصهيونيّ، بيني غانتس، في وزارة الدفاع الأمريكيّة "البنتاغون" قبل أشهر، حيث اعتبر أنّ "حجر الزاوية" في العلاقة بين واشنطن وتل أبيب، هو الحفاظ على تفوق العدو الصهيونيّ العسكريّ في المنطقة، موضحاً أنّه لا يوجد "حليف بديل" عن الكيان الصهيونيّ للولايات المتحدة هناك.
علاوة على ما ذُكر، نبّه التقرير إلى أنّه من السهل انتقاد أجندة السياسة الخارجية لإدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، وغيره من الجمهوريين لأنّ لغتهم وأفعالهم العدوانيّة واضحة وجليّة، لكنه لا يمكن مراقبة الخطاب الديمقراطيّ بنفس السهولة لأنّه يستخدم مزيجاً من اللغة السطحيّة والجمل السياسية والتاريخية المُنمقة، التي يتم التعبير عنها بدقة بهدف استعادة واشنطن مكانتها في المنطقة كـ "صانع سلام".
وفي ظل التزام الإدارة الديمقراطيّة بتسليح كيان الاحتلال الصهيونيّ والدفاع عنه، دون أن توفر للفلسطينيين والعرب أيّ تغيير يذكر في هذا الشأن، لا يمكن أن يحدث تغيير جوهريّ في هذه القضيّة، إلا عندما تحترم الولايات المتحدة القانون الدوليّ، وهذا لن يحدث أبداً بالنظر إلى منطق جو بايدن، الذي تخلى عن الشرعيّة الدوليّة وحقوق الشعوب باعتبارها مسائل غير مهمة مقارنة بأمن العدو الصهيونيّ.
وما ينبغي ذكره، أنّ ترامب اعترف بالقدس عاصمة موحدة للكيان الغاصب في 6 كانون أول عام 2017، فيما أعلنت إدارته قطع كل المساعدات لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في 3 آب من العام 2018، بعد أن كانت على مدى سنوات طويلة المانح الأكبر للوكالة، وقد حصلت تل أبيب، وفق ما تقوله المعطيات، على دعم كبير من ترامب خلال 4 سنوات، من ضمنها مكاسب سياسية عديدة على حساب العرب والفلسطينيين تفوق ما حصلت عليه من أيّ رئيس آخر في تاريخ أمريكا، حيث أعلن ترامب في 28 كانون الثاني عام 2020، ما تعرف بـ"صفقة القرن"، وهي خطة أمريكيّة لتسوية سياسيّة تتضمن تصفية القضية الفلسطينيّة.
وبفضل الدعم الأمريكيّ المُطْلق، يُغيب الكيان الصهيونيّ القاتل، القرارات الدوليّة بفرضه سياسة الأمر الواقع على الفلسطينيين واستباحته للدم الفلسطينيّ والعربيّ وخرقه الفاضح لكل القوانيّن والمواثيق الدوليّة المتعلقة بحقوق الإنسان، إضافة إلى مخطط الضم امتداداً لعملية التوسع على حساب الأرض والحقوق الوطنيّة للشعب الفلسطينيّ الأعزل، في إصرار واضح من حكومة العدو على قتل آخر رمق للسلام الذي يتحدث عنه البعض وبالأخص الولايات المتحدة التي أدخلت العديد من الدول الخليجيّة والعربيّة في حظيرة التطبيع مع الكيان الصهيونيّ.
ختاماً، من الضروري التذكير بما قاله رئيس الهيئة الإسلاميّة العليا في مدينة القدس المحتلة، وخطيب المسجد الأقصى، الشيخ عكرمة صبري قبل مدة، والذي بيّن أنّ تصريحات وزير الخارجية الأمريكيّ الجديد، تؤكّد على ثبات الاستراتيجيّة الأمريكيّة في دعم العدو الصهيونيّ، موضحاً أنّ الدعم الأمريكي لتل أبيب سيستمر، ولكن الفرق بين ترامب و بايدن، هو في بعض التكتيكات ليس إلا، أما الاستراتيجيّة فهي ثابتة في السياسية الخارجيّة الأمريكية تجاه الكيان الصهيونيّ والعرب بشكل عام، معتبراً أنّه من الخطأ أن نراهن على رئيس أمريكي جديد وسابق، كما أنه من الخطأ أن نراهن على رئيس وزراء صهيونيّ حالي أو قادم، لأن تغيير الأشخاص لا يعني تغيير الاستراتيجيات فهذه ثوابت بالنسبة لهم.