الوقت-شهدت منطقة غرب آسيا على مدى العقد الماضي، سلسلة من الحكومات الضعيفة المتداخلة بالأزمات والمتصارعة معها تدلّ على أنّها دول منهارة لكن بنسب مختلفة، ويقول نوام تشومسكي، الفيلسوف والمنظّر الأمريكي المعروف في وصف هذه الدول "إن السمة المميزة للحكومات المنهارة هي العجز عن توفير الأمن لشعوبها، أو ضمان الحقوق في الداخل والخارج، أو الحفاظ على المؤسسات الديمقراطية الفعالة (وليس التعاقدية فقط)".
وبعبارة أخرى، الدول المنهارة هي دول لا تملك القدرة على أداء الوظائف الرئيسة للحكومة.
كانت الحكومة اللبنانية من أهم الحكومات العالقة بالأزمات في المنطقة في السنوات الأخيرة. وبسبب التنوع العرقي والديني الواسع النطاق في لبنان، تقوم الحكومة اللبنانية على نظام المساهمة السياسية، الذي يطلق عليه اللبنانيون أنفسهم "الميثاق الوطني".
على الرغم من أن هذا الاتفاق السياسي تم وضعه في التسعينات لإنهاء الصراع الدموي المستمر منذ 15 عاماً في البلاد بناء على اتفاق الطائف، فقد تم اعتماده في الدستور الجديد للبلاد، ولكن عجز الحكومة اللبنانية في السنوات الأخيرة عن توفير الاستقرار الاقتصادي، والحدّ من التدخل الأجنبي، ومكافحة الفساد الحكومي والإداري، فضلاً عن التحديات الأجنبية غير المتوقعة مثل الأزمة السورية، قد أدخلت البلاد في هاوية الاحتجاجات الشعبية وعدم الاستقرار السياسي
في هذه الأثناء، وفي خضم الاحتجاجات الشعبية، تم تشكيل الحكومة الجديدة بقيادة رئيس الوزراء حسن دياب، في خطوة غير مسبوقة في يناير / كانون الثاني دون مشاركة قوة سياسية فاعلة، أي تحالف 14 آذار وحركة المستقبل، ولدى الحكومة الجديدة خطة جادة وشاملة لاستعادة الاستقرار الاقتصادي ومحاربة الفساد. في هذه الظروف، بالإضافة إلى تحديات المعارضة الداخلية، يبدو أن دياب يواجه تدخلاً أجنبيًا خطيرًا من أجل جعله غير قادر على تنفيذ الإصلاحات.
أمريكا والسعودية والكيان الصهيوني هم الآن أهم العناصر الفاعلة في التطوّرات اللبنانية، ويخطّطون لهزيمة الحكومة وحزب الله اللبناني، وخلال الأشهر الأخيرة، اتخذ البيت الأبيض زمام المبادرة في هذه الجهود، وفي استراتيجية معقدة ومتعددة الأبعاد لها أهداف إقليمية أيضًا، استخدم أوراقه لحرف مسار التطورات في لبنان.
تدمير لبنان اقتصادياً
يعاني الاقتصاد اللبناني من سلسلة من الازمات الاقتصادية منها الدين الخارجي الكبير وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع التضخم والركود والبطالة وانخفاض قيمة العملة الوطنية. وفي ظل هذه الظروف، أصبحت العقوبات التي فرضت على الشخصيات والبنوك اللبنانية، عقبة أمام جهود دياب للقيام بالإصلاحات وللسيطرة على اقتصاد البلد غير المتوازن.
وفي هذا الصدد، شدد وزير المالية اللبناني علي حسن خليل في يوليو 2019 على أن العقوبات المفروضة على حزب الله، على الرغم من أن اسم هذا الحزب فقط قد ورد في قائمة العقوبات الأمريكية، لكن لها تأثير أوسع وأشمل على الوضع الاقتصادي والمالي للبلاد.
ومن ناحية أخرى، فأن نفوذ الولايات المتحدة على المنظمات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي، أصبح بمثابة ضغوط على هذه المنظمات لفرض عقبات أكثر أمام لبنان لأخذ القروض.
من ناحية أخرى، يمكن تقييم انتهاكات وتدخل أمريكا في منع الاستقرار الاقتصادي في لبنان، أنه يأتي ضمن ما يسمى بقانون قيصر. ففي يناير 2019، أقر مجلس النواب الأمريكي قانون قيصر بهدف فرض عقوبات على الحكومة السورية وأنصارها وذلك بالأغلبية المطلقة من الأصوات. وفي النهاية تمت الموافقة على المشروع من قبل الرئيس دونالد ترامب في ديسمبر 2019 بإعلان قانون قيصر.
على الرغم من أن هذه العقوبات تبدو أنها تستهدف سوريا فقط، إلا أنها قد تؤثر أيضًا على الأزمة اللبنانية. ومن التبعات الاقتصادية لقانون قيصر على الاقتصاد اللبناني، وقف التجارة مع دمشق. في حين تعد سوريا المعبر الوحيد للبنان مع الدول العربية، ويجب أن تستمر العلاقات معها.
لطالما كانت المصارف اللبنانية بوابة للاقتصاد السوري والتبادل التجاري والتجار السوريين، حيث أودع العديد من رجال الأعمال السوريين أموالهم في البنوك اللبنانية ويمارسون أعمالهم التجارية عبر لبنان. في الواقع، استهدفت واشنطن هذه المرة الحكومة اللبنانية والأحزاب السياسية بشكل مباشر من خلال قانون قيصر.
وفي هذا السياق، قال الصحفي البريطاني ومحلل شؤون الشرق الأوسط، داني ماكي "إن لبنان كانت ليس فقط بطاقة اقتصادية سورية خارجة عن نطاق السيطرة الأمريكية، بل كانت أيضا القلب النابض للمجتمع التجاري السوري".
بالإضافة إلى ذلك، قد تستخدم أحزاب المعارضة في حكومة دياب التفاوض مع صندوق النقد الدولي، كذريعة بحجة أن عدم طاعة أوامر الولايات المتحدة قد يضر بهذه المفاوضات وأن لبنان لن تتمكن من تحمل فرض مزيد من العقوبات على الحكومة.
خلق فتنة بهدف نزع سلاح المقاومة
شهدت لبنان في الأسابيع الأخيرة الماضية جولة جديدة من الاحتجاجات بعد التدني النسبي لفيروس كورونا، وواجهت تحولاً كبيراً هذه المرة مع ظهور شعارات طائفية ومعادية للدين. لبنان بلد متعدد المذاهب والأطياف، ومن الواضح أن نار التفرقة الدينية سم قاتل لأمن واستقرار البلاد. وفي هذا السياق، شدد بعض المسؤولين اللبنانيين، مثل الرئيس ميشال عون ونبيه بري، رئيس حركة العمل، على وجود تدخل أجنبي في ظهور مثل هذه الشعارات.
على أي حال، فإن موضوع الجدل الطائفي والديني في لبنان الذي هو صنيعة أمريكية بشكل كبير يساعدها في ذلك بعض العناصر من الداخل اللبناني، ليس بالجديد، لكن لعب هذا الدور المشؤوم خطير للغاية في الوضع الحالي، ويبدو أن اللبنانيين يفهمون ذلك جيداً.
وكمثال على ذلك، حكمت محكمة لبنانية على دوروثي شيا، سفيرة الولايات المتحدة في لبنان، التي أدلت ببيان تدخلي في مقابلة متلفزة ضد حزب الله، بحظر لمدة عام من الإدلاء بالتصريحات. وزعمت شيا أن "الأمين العام لحزب الله يهدد استقرار لبنان، الأمر الذي سيعيق الحل الاقتصادي في لبنان".
الأمر المهم فيما يخص استراتيجية الولايات المتحدة المتعددة الجوانب لزعزعة استقرار لبنان، هو تزامنها مع خطط الكيان الصهيوني التوسعية في الضفة الغربية، وجهود الولايات المتحدة لدفع صفقة القرن على الرغم من المعارضة الدولية له. إن الضغط ضد المقاومة اللبنانية، ونزع سلاحها في نهاية المطاف، يعني القضاء على أحدى أضلع المقاومة القوية للغاية في مقابل الخطط الشريرة للولايات المتحدة والكيان الصهيوني في شطرنج التطورات المستقبلية في المنطقة.