الوقت- لم يستطع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان اخفاء هواجسه طيلة فترة الأزمة السورية، ولم يبخل أردوغان على جارته سوريا ببث الفتنة وتسليح المعارضة السورية تمهيدا لاحتلال مدن سورية قريبة من حدود بلاده، لاسيما حلب وادلب وبعد أن فشل في الحفاظ على حلب تحت سيطرته، ذهب نحو الاحتفاظ بالمدينة الثانية مع اريافها، وأظهر شراسة منقطعة النظير للحفاظ على "ادلب" على اعتبار انها الورقة الأخيرة التي يحتفظ بها والتي تساعده على التفاوض مع روسيا وغيرها من الدول، لكن هذه الورقة الرابحة تحولت إلى ورقة ضغط عليه من الداخل والخارج، فبعد ان اعتقد اردوغان أنه سمكة تتحرك بانسيابية داخل الاراضي السورية، أدرك مؤخرا أن الجيش السوري بدأ يجفف مستنقعات الاتراك وانصارهم وهاهم يغرقون رويدا رويدا في الوحل السوري، وما مقتل 33 جندي تركي الا خير دليل على ذلك، ويبقى السؤال ماذا يريد أن يفعل اردوغان بعد ان وجد نفسه محاصر من الشرق والغرب وغير مرحب به وبجنوده وبمرتزقته في سوريا؟.
السؤال الأهم ماذا يفعل أردوغان في سوريا؟، أوليس زج جنوده في سوريا هو مغامرة استعمارية فاشلة واعتداء على سيادة دولة جارة وفقا لجميع المواثيق الدولية؟.
لاشيء يبرر تواجد الجيش التركي في سوريا، وان كان اردوغان يخاف على امنه القومي كما يدعي فقد اقترح عليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن تبقى قواته في شريط حدودي بعمق 15 كلم، وحتى في 60% من إدلب وفق بعض المعلومات، فإن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، رفض الاقتراح، وأصرّ على انسحاب الجيش السوري من المناطق التي حرّرها، متوعّداً "العدو" (يستخدم المسؤولون الأتراك هذا المصطلح) السوري بالاستعداد للموت من أجل إدلب.
عندما أمهل إردوغان، قبل 20 يوماً، الجيش السوري حتى نهاية شباط للانسحاب، كان واضحاً أنه يحتاج إلى بعض الوقت للتحشيد اللوجستي لعملية عسكرية واسعة في إدلب، من جهة، وأنه يتهيّب الدخول في صدام مباشر مع سوريا وروسيا من جهة أخرى. في هذه الأثناء، كان يواصل اللعب على التناقضات، ويطالب الولايات المتحدة بنصب صواريخ "باتريوت"، كما يطلب دعم "حلف شمال الأطلسي". الردّ لم يتأخّر كثيراً برفض الطلب التركي، سواء "الباتريوت" أو تدخّل "الأطلسي". ومع أنه وجد نفسه وحيداً في مواجهة سوريا وروسيا، فقد تغلّبت في داخله "عقدة الأسد" والعداوة لسوريا، واختار سياسة الهروب إلى الأمام والدخول في مغامرة دموية مع الجيشين السوري والتركي، بلغت ذروتها مع تسليح المعارضة بصواريخ محمولة مضادّة للطائرات السورية والروسية، ومع محاولة استعادة سراقب ومناطق أخرى بالقوة. اعتقد إردوغان أن "المفاوضات بالنار" يمكن أن ترغم السوريين والروس على قبول شروطه، لكن الردّ جاء في غاية القوة والصلابة، والنتيجة رمي الجنود الأتراك في "محرقة إدلب"، في ظلّ رفض التعامل بواقعية مع سؤال زعيم المعارضة، كمال كيليتشدار أوغلو، قبل أيام قليلة، عمّا تفعله تركيا في سوريا.
وتَصاعد التجاذب الروسي - التركي على خلفية مقتل عشرات الجنود الأتراك في ريف إدلب الجنوبي أول من أمس، فيما أتى التفاعل الغربي مع مناشدات أنقرة دعمها في الشمال السوري بارداً.
وفي ظلّ ردّ تركي وُصف بـ"الهزيل" على مقتل أكثر من ثلاثين جندياً تركياً بغارات جوية روسية - سورية في إدلب أول من أمس، تابع الجيش السوري تقدمه في منطقة سهل الغاب في أقصى ريف حماة الشمالي الغربي، حيث سيطر على قرى خربة الناقوس والمنصورة وتل واسط والزيارة والمشيك وزيزون الجديدة وقسطون، ليصل إلى مشارف الطريق الدولي حلب - اللاذقية (M4)، والذي باتت تفصله عنه كيلومترات قليلة فقط، فيما يفصله عن مدينة جسر الشغور الاستراتيجية أقلّ من 10 كم. وتهدف العمليات العسكرية في أقصى ريف حماة الشمالي الغربي، وريف إدلب الجنوبي، إلى الوصول إلى الطريق المذكور، ووصله بالطريق الدولي حلب - حماه، علماً أن الطريقين يلتقيان في مدينة سراقب الاستراتجية جنوب شرق مدينة إدلب، والتي أعاد المسلحون السيطرة عليها فجر يوم الأربعاء، وقطعوا بذلك الطريق الدولي "M5".
في هذا الوقت، برزت مساعٍ دبلوماسية روسية لتخفيف الاحتقان، وتجنّب أيّ صدام مباشر مع أنقرة، على رغم مشاركة القوات الروسية في غالبية عمليات القصف الجارية في إدلب. وكانت أرسلت موسكو، عقب اشتداد التطورات في إدلب، وفداً إلى أنقرة للاجتماع بالمسؤولين الأتراك. وأعلنت وزارة الخارجية التركية، أمس، أن تلك المحادثات انتهت، وأن "الوفد الروسي في الطريق إلى بلاده". وأشارت الوزارة إلى أن المسؤولين الأتراك أبلغوا الوفد الروسي "ضرورة تطبيق وقف دائم لإطلاق النار فوراً في إدلب"، و"ضرورة انسحاب قوات الحكومة السورية إلى الحدود المقرّرة في اتفاق خفض التصعيد المبرم عام 2018 بين تركيا وروسيا".
الهلع الذي أصاب الأتراك، ولا سيما أمام المستشفيات، عكس حجم المأزق الذي تجد تركيا نفسها فيه. فالجميع يتساءل عن الهدف الوطني أو الأخلاقي الذي يسقط من أجله الجنود خارج حدود الوطن. ومواقع التواصل الاجتماعي التركية شهدت أوسع حملة مناهضة لزجّ إردوغان بالجنود في أتون النار السورية
كلّ هذا سوف يضعف صورة إردوغان في الداخل التركي، وخصوصاً أنه تنتظره جلسة محاسبة عسيرة مغلقة يوم الثلاثاء المقبل، موعد انعقاد البرلمان التركي لمناقشة الوضع في الشمال السوري، والذي أعلن رئيس البرلمان، مصطفى شينتوب، أن بلاده ستعمل ما بوسعها لمنع تصاعده.