الوقت- ما كان يقاسيه الشعب السوداني من صعوبات في المعيشة وسوء إدارة من الحكومة رافقها فساد تغلغل في مؤسسات الدولة، بدأ يظهر على السطح منذ الأربعاء الماضي على شكل مظاهرات عفوية خرجت في محافظات السودان "عطبرة وأم درمان وكردفان" ولا تزال مستمرة حتى كتابة هذه السطور.
الشعب يطالب بتحسين ظروفه المعيشية بعد أن بدأت الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرّ بها السودان تخنق المواطنين وتحرمهم من حاجاتهم الأساسية ولاسيما الخبز والوقود، وقد ارتفع سعر الخبز في الآونة الأخيرة، وترددت توقعات بارتفاعه أكثر بسبب رفع الدعم الحكومي المتوقع، لدرجة أن أحد المتظاهرين السودانيين صرّح يوم أمس لوكالة رويترز: "لم أتمكّن من شراء الخبز منذ 4 أيام"، نعتقد أن هذه العبارة توصل رسالة واضحة لحجم المعاناة التي يمرّ بها السودان.
رأي السلطات
استخدمت الشرطة في السودان القوة لتفريق متظاهرين، وذلك مع تواصل المظاهرات لليوم الثالث على التوالي في أنحاء متفرقة من البلاد احتجاجاً على ارتفاع أسعار الخبز والوقود، وأطلقت الشرطة السودانية الغاز المسيل للدموع على عشرات المتظاهرين في عطبرة وأم درمان وشمال كردفان، وأفادت تقارير بمقتل متظاهر في عطبرة، وبهذا يكون وصل عدد القتلى إلى 9 على الأقل وجرح المئات في احتجاجات آخذة بالاتساع في أنحاء متفرقة من السودان.
ومع زيادة الاضطرابات، أعلنت السلطات تعليق الدراسة في كل الجامعات وكذلك مرحلتي الأساسي والثانوي بولاية الخرطوم لأجل غير مسمى، كما أعلنت السلطات في ولاية القضارف حالة الطوارئ وفرض حظر التجوال من السادسة مساءاً وحتى السادسة صباحاً.
أما السلطات فقد اعتبرت أن هذه المظاهرات هي صنيعة "الموساد" الإسرائيلي، وفي هذا الإطار ألقى مدير جهاز الأمن الوطني والمخابرات السودانية صلاح قوش اللوم على "متمردين تربطهم صلات بإسرائيل" في المظاهرات التي تواصلت لليوم الثالث في أنحاء البلاد وسقط فيها قتيل جديد، في حين علّقت السلطات الدراسة بجامعات الخرطوم وعطّلت مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي مؤتمر صحفي قال مدير جهاز الأمن الوطني والمخابرات صلاح عبد الله محمد صالح المعروف أيضاً باسم صلاح قوش إن شبكة في العاصمة الكينية نيروبي جاءت بمتمردين تربطهم صلات بإسرائيل إلى السودان لإثارة أعمال العنف، وكشف أن هؤلاء الأفراد تم تجنيدهم من جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد)، وشكلوا "غرف عمل" لهم في كل من الخرطوم ومدني وأم درمان ومدن سودانية أخرى.
وقال: إن الحكومة اتخذت قراراً بتثبيت سعر الخبز بجنيه واحد مع الاستمرار في دعم الخبز والوقود، مشيرة إلى أن الحكومة تبذل الجهود لتوفير السلع وحلّ مشكلة شُح السيولة النقدية.
أسباب المظاهرات
تعود أسباب هذه المظاهرات إلى غياب وجود خطة واضحة للرئيس السوداني عمر البشير في طبيعة علاقاته مع الوسط المحيط، وهنا لا أحد يشكك بسعي البشير لتحسين ظروف معيشة شعبه ولكن سياساته الأخيرة لا يمكن فصلها إطلاقا عمّا يجري حالياً داخل البلاد.
البداية كانت منذ أن قطع البشير علاقاته مع إيران وبدأ بتهديد سوريا حينها بجيش "عرمرم" لدعم المعارضين لحكومة الأسد، ليتبعها بالاتجاه نحو السعودية والإمارات وعقد صفقات معهم لتحسين ظروف بلاده والحصول على مساعدات مالية منهما مقابل مشاركة قوات سوادنية في الحرب الدائرة في اليمن لمصلحة السعودية، فماذا كانت النتيجة؟
أولاً: العلاقة مع السعودية والإمارات كان لها غاية أخرى وهي رفع الحظر الاقتصادي والسياسي عن السودان بعد أن كانت قد وضعتها أمريكا على لائحة الإرهاب، ولكن طوال عامين كاملين منذ إعلان الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما تعليق العقوبات الاقتصادية الأمريكية على الخرطوم المفروضة منذ 20 عاماً، والاقتصاد السوداني يعيش أسوأ أيامه وسط انكماش حاد، وتضخم كبير، وانهيار في قيمة العملة الوطنية أمام الدولار.
ثانياً: لم تقدّم الإمارات والسعودية أي مساعدات مالية ضخمة للسودان على خلفية مشاركة جنود هذا البلد الفقير في حرب اليمن ومقتل 1000 جندي منهم هناك، على عكس ما حصل مع مصر التي لم تشارك جنودها في هذه الحرب ومع ذلك حصلت على مساعدات بمليارات الدولارات، وبالتالي يمكن القول إن البشير غيّر حلفاءه لأجل لا شيء ولا يمكن فصل زيارته الأخيرة إلى دمشق عما يجري حالياً والتي يمكن اعتبارها أنها تأتي في إطار المحاولة الأخيرة للعودة إلى المسار الصحيح لسياسة البلاد القديمة، ولكن نخشى ما نخشاه أن يكون فات القطار على البشير.
الأزمات اليوم في السودان متراكمة خاصة في الجانب الاقتصادي، من ندرة في الوقود وندرة في دقيق الخبز، والغاز، والحصول على الكاش من البنوك فالبنوك تعجز عن توفير السيولة النقدية لمودعيها بسبب سحب المواطنين لمدخراتهم وتحويلها إلى دولار، لا توجد سوى بضعة صرّافات آلية تعمل بصورة متقطّعة في عاصمة البلاد، بينما البنوك في الولايات تسمح للمواطنين بسحب 10 دولارات يومياً فقط مهما كان نوع الحساب وحجمه.
هذه التطورات تزامنت مع عودة زعيم المعارضة الصادق المهدي إلى السودان ودعوته أمام آلاف من مؤيديه لانتقال ديمقراطي في تقاطع مع مطالبة حزب المؤتمر السوداني برحيل النظام وتشكيل حكومة تصريف أعمال، فهل نحن مقبلون على تغيير جذري في السودان أم سيتمكن البشير من احتواء الأزمة كما فعلها في السابق؟