الوقت - سعى الكيان الإسرائيلي طيلة العقود السبعة الماضية إلى إقناع اليهود بالهجرة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، واعداً إياهم بحياة آمنة ومستقرة بهدف تقوية هذا الكيان وتغيير البنية الديموغرافية على حساب السكّان الأصليين "الفلسطينيين".
ومنذ نشوئه عام 1948 اعتمد كيان الاحتلال على رفد كيانه بالمستوطنين، وزيادة أعدادهم خدمة لمطامع سياسية متعددة. وأبرز حركات هذه الهجرة ما جرى في مطلع تسعينات القرن الماضي، حينما استقدم هذا الكيان نحو مليون يهودي معظمهم من الروس، غداة انهيار الاتحاد السوفياتي.
وسعت سلطات الاحتلال إلى خداع اليهود وإيهامهم بأنها ستوفر لهم مستويات اقتصادية وأمنية مرتفعة في فلسطين المحتلة، ليكتشفوا فيما بعد بأنهم وقعوا في "فخ كبير". وتشير تقارير رسمية ودراسات أكاديمية إلى أن حوالي 120 ألف مستوطن غادروا الأراضي المحتلة خلال السنوات الأربع الماضية، فيما ذكر مكتب الإحصاء "الإسرائيلي" في تقرير أن عدد المستوطنين الذين غادروا منذ ستينات القرن الماضي وحتى نهاية عام 2015 بلغ نحو مليون شخص.
وأوضح التقرير أن حجم الهجرة المعاكسة ارتفع بشكل ملحوظ منذ بداية الألفية الثالثة، خاصة في فترة أوج الانتفاضة الفلسطينية الثانية وتحديداً خلال السنوات 2001-2003، ثم هبط بعض الشيء، ليرتفع مرة أخرى في عامي 2006 و 2007 في أعقاب العدوان الإسرائيلي على لبنان، فيما استمر الاتجاه عام 2012 نحو ميزان هجرة سلبي، ما يعني أن المزيد من اليهود يفضلون الانسلاخ عن الكيان الإسرائيلي والعيش خارجه.
وبحسب هذه التقارير، فإن معظم المغادرين هم من الشباب والأكاديميين ممن يبحثون عن فرص للعمل، في أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا ودول أخرى.
ورغم المحاولات المستمرة من حكومة الاحتلال لتشجيع اليهود على البقاء في فلسطين المحتلة، وتحريضها المستمر ضد المغادرين لثنيهم عن الهجرة العكسية، إلى حدّ وصفهم بأنهم "معادون للصهيونية"، إلاّ أن الوقائع على الأرض أثبتت أن هذه المساعي ذهبت أدراج الرياح لأسباب عدّة يمكن إجمالها بما يلي:
- انعدام الأمن لفترات طويلة، وفقدان الأمل في إيجاد منظومة تسوية مع السلطة الفلسطينية، والدول الإقليمية لاسيّما المجاورة لفلسطين المحتلة.
- غلاء المعيشة والتفكك المجتمعي وانتشار الجريمة داخل الكيان الإسرائيلي.
- تغلغل التيار المتطرف في الوسط الإسرائيلي وتحكمه في مسارات الحياة وسيطرته على نحو 80% من الحركات السياسية والمجتمعية.
- خوض حروب عسكرية كالتي شنّت على قطاع غزة عام 2014، وتفجر انتفاضة القدس، واستمرار فصولها منذ نحو عامين، ما أسهم في انعدام الأمن الذي يؤرق المستوطنين داخل كيان الاحتلال.
- أكثر ما تخشاه الدويلة الصهيونية هو الديموغرافيا، وبسبب تراجع الإحساس بالأمن، بات من المرجح تصاعد الهجرة المعاكسة، الأمر الذي أثر على سياسة الاستيطان وأضعف وتائره.
- اشتداد أزمة السكن وتراجع مستوى الخدمات لاسيّما في قطاع الصحة.
- تعد ظاهرة امتلاك الكثيرين من اليهود جنسية مزدوجة جزءاً من الشعور بالنفي الداخلي الذي يميز قطاعات كثيرة من التجمع الاستيطاني الإسرائيلي، إذ هناك إحساس بـأن هذا الكيان في طريقه الى التفكك ولا سبيل لمنع ذلك.
ومن المعروف أن الإعلام والدوائر الرسمية في كيان الاحتلال لا تتحدث عن الأرقام الحقيقية للهجرة المعاكسة، حتى لا تؤثر هذه الأرقام في نفوس المستوطنين الذين يعيشون أساساً في كيان محاط بالأزمات المختلفة، في مقدمتها المشهد السياسي الضبابي وغياب الأفق في ملف التسوية بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية المتمثلة في الضائقة المعيشية، ناهيك عن الوضع المتفجر في الشرق الأوسط.
وتشكل ظاهرة الهجرة المعاكسة كابوساً حقيقياً للساسة الإسرائيليين ودوائر صنع القرار فيها. ويحمّل أقطاب المعارضة حكومة "بنيامين نتنياهو" مسؤولية استفحال هذه الظاهرة.
رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو"
وتجدر الإشارة إلى أنه لابدّ من النظر إلى الأرقام الصادرة عن كيان الاحتلال فيما يتعلق بالهجرة المعاكسة بعين الريبة، وعدم الوثوق بها، لأسباب موضوعية بينها أن دوائر القرار في هذا الكيان لا تُفصح بصراحة عن أعداد المغادرين لخشيتها من تنامي هذه الظاهرة.
ومن خلال استطلاع للرأي تبين أن 30 في المئة من اليهود درسوا بجدية مغادرة الأراضي المحتلة في أعقاب العدوان على غزة (صيف 2014)، حيث بدت الصورة قاتمة، فلم تعد المغادرة "خيانة للصهيونية"، كما كانت توصف سابقاً، بل فرصة أخرى للحياة. ووفقاً للاستطلاع، أعرب عدد كبير من المغادرين إلى بلدان أوروبية عن اعتقادهم بأنه لا يمكن أن يكون الخوف والتوتر والضيق الاقتصادي قدرهم إلى الأبد.
وإذا كانت الهجرة اليهودية إلى فلسطين تمثل في السابق قاسماً مشتركاً لكل الأحزاب والمؤسسات الصهيونية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فإن الهجرة العكسية باتت تشكل اليوم ضربة قاصمة للكيان الإسرائيلي، باعتبارها تعمق التشكيك بمبرر وجوده وإمكانية استمراره.