الوقت- في وقت تتسارع فيه التحذيرات الحقوقية والإنسانية من كارثة غير مسبوقة في قطاع غزة، تتكشف ملامح دور أمريكي محوري في تمكين الكيان الإسرائيلي من مواصلة حرب الإبادة الجماعية بحق السكان المدنيين، ليس فقط عبر الدعم العسكري المفتوح، بل من خلال الغطاء السياسي والدبلوماسي الذي يسمح بإدامة الحصار، وتعطيل أي مسار حقيقي لوقف إطلاق النار، وربط الحقوق الإنسانية الأساسية بشروط تفاوضية تعجيزية.
في هذا السياق، حمّل المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، الذي يتخذ من جنيف مقرًا له، الولايات المتحدة مسؤولية مباشرة عن تأبيد الوضع الكارثي في قطاع غزة، معتبرًا أن الدعم الأمريكي غير المشروط يتيح للكيان الإسرائيلي الاستمرار في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وتحويل حياة أكثر من مليوني فلسطيني إلى جحيم يومي يتجسد في الموت البطيء والجوع والبرد والتشريد.
اشتراطات سياسية مقابل حق الحياة
المرصد الأورومتوسطي وصف الموقف الأمريكي الأخير، الذي يربط أي تقدم في مسار وقف إطلاق النار باستعادة آخر جثة من قطاع غزة، بأنه تواطؤ مشين في استمرار الانتهاكات الجسيمة، فبدل أن تضغط واشنطن على الكيان الإسرائيلي لوقف العدوان ورفع الحصار، اختارت تبني سرديته بالكامل، وتحويل ملف إنساني بحت إلى أداة ابتزاز سياسي وعسكري.
هذا الاشتراط، وفق المرصد، لا يمكن فصله عن استراتيجية أوسع يتبعها الكيان الإسرائيلي لإطالة أمد الحرب، إذ يُستخدم كذريعة لإدامة الحصار الخانق، ومواصلة قصف المدنيين، ومنع عودة النازحين، وتدمير ما تبقى من منازلهم والبنية التحتية الضرورية للحياة.
ويؤكد خبراء قانونيون أن ربط مصير سكان قطاع غزة بشروط تفاوضية معقدة، قد يكون من المستحيل تحقيقها في ظل الدمار الهائل، يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، الذي ينص بوضوح على أن الحقوق الأساسية، وعلى رأسها الحق في الحياة والغذاء والسكن، لا يجوز إخضاعها لأي مساومة سياسية.
دمار شامل كأداة تعطيل متعمدة
يشير المرصد الأورومتوسطي إلى أن حجم الدمار الذي ألحقه الكيان الإسرائيلي بقطاع غزة لم يكن نتيجة عرضية للحرب، بل سياسة ممنهجة تهدف إلى جعل أي تقدم إنساني أو تفاوضي أمرًا شبه مستحيل، فقد دمّر الاحتلال معظم آليات ومعدات البحث والإنقاذ، وسوّى أحياء كاملة بالأرض، واستهدف البنية التحتية المدنية من مستشفيات ومدارس وشبكات مياه وكهرباء.
في ظل هذا الواقع، يصبح الحديث عن شروط تقنية أو لوجستية لاستكمال مسار التفاوض ضربًا من العبث، لأن الكيان الإسرائيلي هو ذاته من خلق الظروف التي تعيق تحقيق هذه الشروط، ومع ذلك، تواصل الولايات المتحدة تبني هذه الذرائع، متجاهلة مسؤوليتها الأخلاقية والقانونية كقوة مؤثرة قادرة على وقف الجرائم لو أرادت.
خلط متعمد بين السياسة والحقوق الإنسانية
واحدة من أخطر نتائج الغطاء الأمريكي للكيان الإسرائيلي، كما يوضح المرصد، هي ترسيخ خلط غير مشروع بين المسارات السياسية والحقوق الإنسانية المكفولة، فبدل التعامل مع المساعدات الإنسانية وفتح المعابر كالتزامات فورية لا تقبل التأجيل، يتم توظيفها كورقة ضغط سياسية، في سابقة تهدد منظومة القانون الدولي الإنساني برمتها.
هذا النهج لا ينعكس فقط على غزة، بل يبعث برسالة خطيرة مفادها أن حياة المدنيين يمكن أن تُستخدم كأداة تفاوض، وأن القوى الكبرى قادرة على تعطيل المبادئ الإنسانية متى تعارضت مع مصالح حلفائها، وهو ما يفسر حالة العجز الدولي، والصمت الغربي المريب إزاء الجرائم اليومية التي يرتكبها الكيان الإسرائيلي بحق الفلسطينيين.
الموت البطيء كسياسة قائمة
المرصد الأورومتوسطي حذّر بوضوح من أن استمرار الوضع الراهن يعني حكمًا بالإعدام البطيء على سكان قطاع غزة، فإلى جانب القصف والحصار، يعيش الفلسطينيون في ظروف معيشية قسرية، مع انعدام شبه كامل لمقومات الحياة الأساسية، من مياه نظيفة وغذاء ورعاية صحية ومأوى.
ومع دخول فصل الشتاء، تتضاعف المأساة، فقد وثّق المرصد وفاة نحو 18 مدنيًا خلال الشهر الجاري نتيجة المنخفضات الجوية، بينهم خمسة أطفال قضوا بسبب البرد القارس، في ظل غياب الملاجئ ومواد التدفئة، ومنع إدخال المساكن المؤقتة والخيام، هذه الوفيات، وفق منظمات حقوقية، ليست كوارث طبيعية، بل نتائج مباشرة لسياسات الكيان الإسرائيلي المدعومة أمريكيًا.
سيطرة عسكرية وتدمير ممنهج
في موازاة الكارثة الإنسانية، يستغل الكيان الإسرائيلي الغطاء الأميركي لترسيخ وقائع عسكرية جديدة على الأرض، إذ تشير التقديرات إلى أن الاحتلال بات يسيطر عسكريًا على أكثر من 53% من مساحة قطاع غزة، بعد تدميرها بشكل شبه كامل، في خطوة تعكس نوايا واضحة لإعادة هندسة الجغرافيا والديموغرافيا تحت ذريعة الأمن.
هذا التوسع العسكري، الذي يتم وسط صمت دولي، يعزز المخاوف من مخططات طويلة الأمد تهدف إلى إبقاء غزة منطقة غير قابلة للحياة، ودفع سكانها نحو الهجرة القسرية، وهو ما يندرج ضمن تعريفات التطهير العرقي المحظور دوليًا.
مطالبات بتحرك دولي مستقل
أمام هذا الواقع، دعا المرصد الأورومتوسطي المجتمع الدولي إلى الخروج من دائرة البيانات الشكلية، واتخاذ خطوات عملية، أبرزها إنشاء آلية دولية مستقلة للتحقق من فتح المعابر، وضمان التدفق العاجل وغير المشروط للمساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، بعيدًا عن تحكم الكيان الإسرائيلي أو حساباته السياسية.
كما طالب المقرر الأممي الخاص المعني بالحق في السكن اللائق بالتحرك الفوري للضغط على الكيان الإسرائيلي من أجل إدخال المساكن المؤقتة ومعدات إزالة الأنقاض، باعتبارها احتياجات إنسانية ملحّة لا تحتمل التأجيل أو التسويف.
الولايات المتحدة بين المسؤولية والتواطؤ
في المحصلة، يعكس المشهد في غزة حقيقة باتت واضحة للمنظمات الحقوقية: الولايات المتحدة لم تعد مجرد وسيط منحاز، بل طرفاً فعلياً في معادلة الإبادة الجماعية التي ينفذها الكيان الإسرائيلي، فالدعم السياسي غير المشروط، واستخدام الفيتو، وتبني السردية الإسرائيلية، كلها عوامل تساهم في إطالة أمد المعاناة، وتحويل غزة إلى ساحة اختبار لمدى هشاشة النظام الدولي.
وبينما يواجه سكان القطاع الموت البطيء تحت القصف والبرد والجوع، يبقى السؤال مفتوحًا: إلى متى سيستمر هذا الغطاء الأمريكي، وإلى أي حد يمكن للعالم أن يتغاضى عن جرائم الكيان الإسرائيلي دون أن يفقد ما تبقى من مصداقيته الأخلاقية والإنسانية؟
