الوقت- أطلق مفتي سلطنة عُمان، الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، تصريحات جديدة أثارت تفاعلاً واسعاً على المستويين العربي والدولي، بعدما جدّد انتقاده لما وصفه بـ“استمرار الغدر من جانب الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني”، مؤكداً أنّ ما يحدث في قطاع غزة منذ بداية العدوان يمثّل “جريمة واضحة في حق الإنسانية والقانون الدولي”، وداعياً إلى “هبّة جماعية لنصرة أهل القطاع ورفع الظلم عنهم”، وقد جاءت هذه الكلمات في لحظة مشحونة سياسياً وميدانياً، حيث لا تزال العمليات العسكرية مستمرة، ولا تزال الجهود الدولية للتهدئة تواجه تعثّراً كبيراً، ما جعل تصريح المفتي يُقرأ بوصفه رسالة قوية تتجاوز الطابع الديني التقليدي لتشمل أبعاداً سياسية وإنسانية.
وحسب ما نقلته مواقع إخبارية، فقد قال المفتي في بيان نشره يوم الاثنين الـ 3 من نوفمبر 2025 إنّ "الاحتلال الإسرائيلي لا يزال على طبعه في الغدر ونكث العهد”، مضيفاً إنّ “الدول التي أشرفت على الهدنة لم تحرّك ساكناً أمام الخروقات، فيما يلتزم المجتمع الدولي صمتاً مُذلاً إزاء ما يتعرض له المدنيون من قتل وتدمير واعتداء على الحرمات".
كما جاء في نقل آخر أنّ الخليلي دعا الشعوب الإسلامية والعربية، بل و“العالم الحرّ”، إلى ضرورة التحرّك لدعم غزة ورفض العدوان “بالقول والفعل”، مؤكداً أنّ النصرة في مثل هذه الظروف “واجب شرعي وأخلاقي وإنساني لا يجوز التخلي عنه”. (
وفي تدوينة نشرها عبر منصّة “إكس”، شدّد على أنّ واجب الأمة هو “أن تهبّ هبّة نصرة للحق، وقطع يد المعتدي، ومساندة أهل غزة بما استطاعت”. (
هذه التصريحات لم تأتِ من فراغ، بل جاءت في سياق تصعيد ميداني رهيب في غزة، وسط تقارير يومية تتحدث عن ارتفاع أعداد الشهداء والجرحى بفعل الغارات والقصف المتواصل، وعن انهيار شبه كامل للبنية التحتية والخدمات الأساسية، في وقت تتعرض فيه المستشفيات للحصار أو الاستهداف، وتتعثر المساعدات الإنسانية في الوصول إلى المناطق المنكوبة، وتشير بعض التقارير الإعلامية إلى أنّ أعداد الضحايا تجاوزت مئات الآلاف بين شهيد وجريح.
وتكشف لهجة المفتي التي غلب عليها الطابع التحذيري أنّه يرى في استمرار العدوان وعدم التزام الاحتلال بأي تفاهمات سابقة مؤشراً على أنّ مسار التهدئة، الذي رُعِي من عدة أطراف إقليمية ودولية، لم يحقق الحد الأدنى من الحماية المدنية المطلوبة، وأنّ البلدان الراعية للهدنة لم تمارس الضغط الكافي لضمان تطبيقها.
ومن الواضح أنّ التصريح يحمل بُعدين: الأول أخلاقي ديني، والثاني سياسي غير مباشر، فمن جهة، يستند المفتي إلى خطاب شرعي يعتبر الدفاع عن المظلوم واجباً، ويحمّل الأمة مسؤولية عدم الاكتفاء بالاستنكار اللفظي، ومن جهة أخرى، يعكس التصريح قدراً من عدم الرضا عن أداء الوسطاء الدوليين الذين فشلوا في كبح التصعيد أو في فتح ممرات إنسانية آمنة.
ويمكن القول إنّ توقيت هذه التصريحات بالتحديد يشير إلى رغبة واضحة في دفع القادة السياسيين في المنطقة نحو اتخاذ مواقف أكثر وضوحاً وفاعلية، وخصوصاً أن سلطنة عُمان عُرفت تاريخياً بسياساتها الهادئة ووساطاتها المتوازنة، ما يجعل خروج موقف قوي من مفتي السلطنة أمراً لافتاً ويستدعي القراءة في سياقه.
على الصعيد الداخلي العُماني، يبدو أن الرسالة موجّهة جزئياً إلى الجمهور المحلي أيضاً، للتأكيد على أنّ المؤسسة الدينية في البلاد تتابع عن كثب المستجدات في غزة، وأنها لا تقف موقف المتفرّج، بل تعتبر ما يجري مسألة تستحق إعلان الموقف الصريح، كما يمكن أن تُقرأ على أنها محاولة لتعزيز حالة التعاطف الشعبي وتوجيهها نحو دعم عملي للغزيين، سواء عبر الإغاثة أو عبر دعم المواقف السياسية الداعية لوقف العدوان.
أمّا على الصعيد العربي والدولي، فإنّ تصريح شخصية دينية عربية بارزة يضيف طبقة جديدة من الضغط الأخلاقي على الحكومات والمنظمات الدولية، وخصوصاً تلك التي تعلن التزامها بالقانون الدولي الإنساني ولكنها لا تتخذ إجراءات عملية لوقف استهداف المدنيين، ومن شأن هذا الخطاب أن يعزز الرواية الفلسطينية في المحافل الدولية، ويجعل تجاهل معاناة غزة مسألة أكثر صعوبة أمام الدول الغربية، وخصوصاً في ظل وجود انتقادات متزايدة من منظمات حقوقية دولية أدانت عدم اكتراث المجتمع الدولي بحماية المدنيين.
مع ذلك، يبقى التحدي الأكبر هو في ترجمة هذا الخطاب إلى إجراءات فعلية، فبينما يملك الخطاب تأثيراً معنوياً وسياسياً، فإنّ الأوضاع على الأرض محكومة بحسابات عسكرية وجيوسياسية معقدة، تتداخل فيها مصالح قوى إقليمية ودولية، ولا يكفي فيها الضغط الإعلامي أو الديني وحده لإحداث تغيير سريع، وهنا يظهر السؤال: هل سيؤدي تصاعد الخطاب العربي الداعم لغزة — ومنه موقف المفتي — إلى تحريك المياه السياسية الراكدة، أم سيقتصر تأثيره على الجانب الرمزي؟
الاحتمال الأكثر واقعية حالياً هو أن الخطابات الرافضة للعدوان، مهما علت نبرتها، لن تحقق تحولاً جذرياً دون وجود إرادة سياسية دولية، وهو ما يبدو غائباً في اللحظة الحالية، وخصوصاً مع انشغال القوى الكبرى بأولويات أخرى، لكن من جهة أخرى، فإن تراكم هذه المواقف يمكن أن يشكّل ضغطاً أخلاقياً متزايداً يسهم على المدى المتوسط في تغيير المزاج الدولي، أو على الأقل في الحد من التجاوزات الميدانية عبر ضبط أداء الاحتلال تحت الرقابة الإعلامية والقانونية.
في النهاية، فإنّ موقف المفتي يُعدّ من المواقف العربية القليلة التي تتحدث بلغة واضحة لا تحتمل التأويل، وتطالب بالتحرك الفعلي وليس مجرد الإدانة، ومع أنّ تحقيق هذه الدعوة في الواقع يحتاج إلى قدر كبير من التوافق العربي والإقليمي، إلا أن أثرها الرمزي مهم لأنها تعيد الاعتبار إلى مركزية القضية الفلسطينية في الوجدان العربي والإسلامي، وتذكّر العالم بأنّ ما يجري في غزة ليس مجرد صراع سياسي، بل قضية إنسانية ومستقبل شعب بأكمله.
