الوقت- تشهد الساحة السياسية الإسرائيلية اضطراباً متصاعداً يعبّر عن عمق الأزمة التي يعيشها الكيان الصهيوني، حيث تتزايد التقديرات حول قرب الدعوة إلى انتخابات مبكرة بعد الانهيار التدريجي في الائتلاف الحاكم بقيادة بنيامين نتنياهو، ورغم محاولاته الحثيثة لتمديد عمر حكومته، إلا أن الوقائع على الأرض تشير إلى أن نتنياهو فقد السيطرة على توازنات الحكم، وأنه بات مضطراً للبحث عن خيارات استثنائية لتأجيل سقوطه السياسي.
صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية كشفت في تقريرها الصادر بتاريخ الـ18 من أغسطس 2025 أن نتنياهو يناقش مع مقربيه تأسيس حزب جديد يضم وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموترتش ووزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير ضمن قائمة واحدة، وذلك في محاولة لاحتواء الانشقاقات ومنع تفكك المعسكر اليميني، الخطوة تبدو محاولة يائسة لإعادة إنتاج اليمين المتشدد في ثوب أكثر تطرفاً، في وقت يتآكل فيه دعم نتنياهو داخلياً ويزداد الضغط عليه خارجياً.
التحركات الأخيرة جاءت بعد انسحاب ثلاثة أحزاب دينية رئيسية من الائتلاف الحاكم، وهي "أغودات إسرائيل" و"ديغيل هتوراه" ثم "شاس"، وهو ما حرم الحكومة من الأغلبية البرلمانية التي كانت تعتمد عليها، وحسب تقارير وكالة الأناضول ووكالة "أسوشييتد برس" و"رويترز"، فقد انخفضت قوة نتنياهو في الكنيست إلى 61 مقعداً فقط من أصل 120، وهو رقم لا يتيح لحكومته تمرير القوانين ولا يضمن بقاءها مستقرة، هذا الانهيار البرلماني لم يأتِ من فراغ، بل يعكس صراعاً داخلياً محتدماً على النفوذ والمصالح، ويؤكد أن الائتلاف الذي بناه نتنياهو لم يكن سوى تحالف هشّ قائم على التناقضات.
المشهد ازداد قتامة مع تصاعد النزاعات الداخلية داخل الليكود نفسه، حيث وقّع خمسة عشر وزيراً من الحزب ومعهم رئيس الكنيست عامير أوهانا عريضة في يوليو الماضي تطالب بضم الضفة الغربية بشكل رسمي قبل عطلة البرلمان، في تحدٍ صريح لكل الضغوط الدولية. هذه الخطوة تعكس أن التيار المسيطر داخل الحكومة يسعى نحو مزيد من التطرف والتصعيد، حتى ولو كان الثمن هو عزلة إسرائيل سياسياً وتفاقم الصراع مع الفلسطينيين، وبذلك، يظهر نتنياهو عاجزاً عن ضبط إيقاع تحالفه، ويجد نفسه أسيراً لمطالب غلاة اليمين الذين يجرّونه إلى مزيد من العزلة والتشدد.
على الصعيد التحليلي، فإن تأسيس حزب جديد يضم بن غفير وسموتريتش ليس سوى محاولة لإعادة تدوير الفشل السياسي، فهذان الوزيران يمثلان الوجه الأكثر تطرفاً للسياسة الإسرائيلية، وضمّهما إلى حزب موحد لن يحل الأزمة بل سيعمّقها، فالمجتمع الإسرائيلي يعاني من انقسام حاد بين معسكرات متناقضة، ومن الواضح أن اليمين المتشدد فقد القدرة على إقناع شرائح واسعة من الإسرائيليين بأنه يمثل استقراراً سياسياً، بل على العكس، فإن تزايد نفوذ المتطرفين يثير قلقاً حتى داخل النخب الاقتصادية والأمنية التي ترى في ذلك تهديداً لبنية الكيان ذاته.
الأزمة الحالية تكشف أيضاً عن فشل المشروع الصهيوني في إيجاد منظومة سياسية مستقرة، حيث باتت الحكومات الإسرائيلية لا تعمّر طويلاً، وتتشكّل الائتلافات على أسس هشة سرعان ما تنهار أمام أول اختبار، انتخابات جديدة – إن جرت – لن تكون سوى إعادة إنتاج للأزمة ذاتها، إذ لا يوجد توافق وطني حقيقي داخل "إسرائيل" حول شكل الدولة ولا حول مستقبلها السياسي، وحسب مراقبين، فإن استمرار نتنياهو في الحكم بهذه الطريقة يفاقم حالة الاستقطاب، ويفتح الباب أمام احتجاجات شعبية واسعة قد تنعكس على الشارع الإسرائيلي، وخاصة مع استمرار الحرب على غزة وتصاعد الانتقادات الدولية لجرائم الاحتلال.
أما على المستوى الدولي، فإن عزلة "إسرائيل" تتعمّق يوماً بعد يوم، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أبديا تحفظات واضحة على السياسات الاستيطانية وخطط ضم الضفة الغربية، في حين تزايدت المطالبات بوقف الحرب على غزة وفتح تحقيقات دولية في جرائم الحرب، ومع ذلك، يصرّ نتنياهو على الارتماء في أحضان المتطرفين، معتقداً أن ذلك سيمنحه قوة داخلية، لكنه يتجاهل أن هذه السياسات تقود الكيان نحو عزلة خانقة وتفقده ما تبقى من غطاء سياسي خارجي.
ومن زاوية أخرى، فإن الأزمة تكشف عن هشاشة "الديمقراطية الإسرائيلية" التي طالما تم تسويقها في الغرب باعتبارها واحة استقرار في المنطقة، الواقع اليوم يظهر عكس ذلك تماماً، فالحكومات تتساقط تباعاً، والانقسامات المجتمعية تتعمّق، والتطرف يسيطر على مراكز القرار، هذه الصورة تؤكد أن المشروع الصهيوني في مأزق وجودي، وأن محاولات نتنياهو للالتفاف عبر تشكيل حزب جديد لن تغيّر حقيقة أن الكيان يترنّح تحت وطأة أزماته الداخلية والخارجية.
في الخلاصة، يقف نتنياهو اليوم أمام مفترق طرق خطير: إما المضي في مشروعه لتشكيل حزب يميني متشدد يعمّق عزلة "إسرائيل" داخلياً وخارجياً، أو مواجهة انتخابات مبكرة قد تطيح به وتفتح الباب أمام مرحلة سياسية جديدة.
لكن أيّاً كان الخيار، فإن المؤكد أن الأزمة الحالية لم تعد مجرّد أزمة ائتلاف حكومي، بل هي انعكاس لانهيار أوسع في بنية النظام السياسي الإسرائيلي، ودليل إضافي على فشل المشروع الصهيوني في تقديم نموذج مستقر أو مقبول، إن ما يجري اليوم في تل أبيب ليس سوى مقدمة لفصل جديد من الضعف والانقسام، وهو ما يعكس حقيقة أن هذا الكيان القائم على الاحتلال والعدوان عاجز عن بناء دولة طبيعية قادرة على الاستمرار وسط محيط يرفض وجوده.