الوقت - في خضم الحرب المفروضة التي امتدت اثني عشر يوماً بين إيران والكيان الصهيوني، والتي اشتعلت فتيلها في الـ 13 من حزيران (يونيو) 2025، أطلقت إيران وابلاً من الصواريخ البالستية مستهدفةً مواقع الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، تُعد هذه المواجهة أشرس صدام مباشر بين إيران والكيان الصهيوني، وأعتى معركة يخوضها هذا الكيان في تاريخه الممتد على مدار سبعة وسبعين عاماً، وقد اندلعت شرارتها إثر اعتداءات الكيان الصهيوني الغاشمة على الأراضي الإيرانية.
في أعقاب العدوان الصهيوني، انتفضت إيران رداً حاسماً، فأمطرت الأراضي المحتلة بمئات الصواريخ البالستية والطائرات المسيّرة، مستهدفةً بدقة متناهية تل أبيب وحيفا ومناطق استراتيجية كمرتفعات الجولان والقواعد العسكرية والأمنية والمراكز الاقتصادية ومجمعات التقنية المتطورة.
وعلى الرغم من استنفار منظومات الدفاع الصهيونية، كالقبة الحديدية والسهم، لاعتراض هذه الهجمات، فإن كثافة ودقة الصواريخ الإيرانية أفقدت هذه المنظومات فاعليتها وأحالتها إلى هياكل عاجزة، تعرضت المراكز الاستراتيجية لدمار هائل، ما وجّه ضربةً قاصمةً للكيان برمته، طالت يد التدمير القواعد العسكرية الرئيسية، بما فيها قاعدة نيفاتيم الجوية ومنشآت الرادار في جلسوز، كما التهمت ألسنة اللهب البنى التحتية العلمية كمعهد وايزمان ومجمعات التقنية في رحوفوت.
لم تنج مراكز القيادة في تل أبيب من سياط النار، ما كبّد الكيان خسائر بشرية ومادية فادحة، قدّرت مصادر محايدة الخسائر الاقتصادية بعشرات المليارات من الدولارات، كاشفةً الستار عن هشاشة الدرع الدفاعي الصهيوني أمام جبروت المنظومة الصاروخية الإيرانية.
هذا الاستعراض المهيب للقوة الإيرانية، الذي نُفذ بتنسيق متقن وقيادة محكمة من القوات المسلحة، لم يقتصر على إركاع الكيان الصهيوني فحسب، بل حطّم هيبته العسكرية أمام أنظار العالم، وانطفأت جذوة الحرب في الرابع والعشرون من حزيران (يونيو) 2025 بوقف إطلاق النار بوساطة أمريكية، غير أن تداعيات هذه الهزيمة النكراء للكيان والتفوق الاستراتيجي الإيراني، ما زالت تلقي بظلالها على المشهد الإقليمي والدولي.
صرّح جون ميرشايمر، الخبير في العلاقات الدولية ومنظّر الواقعية الهجومية والمحلل الأمريكي، معلقاً على الحرب الاثني عشرية بين إيران والكيان الصهيوني: “قدمت إيران في هذه الحرب أنموذجاً فريداً للقوة الصلبة المحلية التي لم تشل إسرائيل فحسب، بل قوّضت أيضاً هيبة الردع الأمريكي في المنطقة، إن تدمير البنى التحتية الاستراتيجية لإسرائيل، كمعهد وايزمان ومصانع إنتل، شكّل ضربةً غير مسبوقة لاقتصاد إسرائيل ومكانتها".
كما کتب دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة، تعليقاً على الحرب بين إيران والكيان الصهيوني: “تلقت إسرائيل ضربةً موجعةً للغاية، وخاصةً في الأيام الأخيرة، تعرضت إسرائيل لضربة حقيقية مدمرة، يا للهول، تلك الصواريخ البالستية حوّلت الكثير من المباني إلى أنقاض".
وحري بالذكر أنه باعتراف وسائل الإعلام العالمية والخبراء والمتحدثين بالعبرية، فإن جهاز الرقابة العسكرية في جيش الكيان الصهيوني ما زال يمارس تعتيماً شاملاً على تفاصيل وأبعاد الأضرار التي لحقت بهذا الكيان جراء الهجمات الإيرانية، ساعياً لطمس الحقائق وحجب الحجم الحقيقي للخسائر.
قاعدة تل نوف الجوية: درة التاج العسكري الصهيوني
تتربع قاعدة تل نوف الجوية على عرش القواعد العسكرية لسلاح الجو الصهيوني، وتكتسي بأهمية بالغة نظراً لموقعها الاستراتيجي ومنشآتها المتطورة ودورها المحوري في العمليات العسكرية، وقد نالت نصيباً وافراً من الضربات الصاروخية الإيرانية المسددة.
لحظة الاستهداف
انطلقت شرارة الهجوم على قاعدة تل نوف في مساء الثالث عشر من حزيران (يونيو) 2025، تجسدت هذه العملية في اثنتين وعشرين موجة من القذائف الصاروخية وعشر مراحل من الغارات بالطائرات المسيّرة، طالت أهدافاً متعددةً في كيان الاحتلال، وفي مقدمتها قاعدة تل نوف الاستراتيجية.
سمات قاعدة تل نوف الجوية وخصائصها
الموقع الجغرافي: تقع قاعدة تل نوف على بعد خمسة كيلومترات جنوب مدينة رحوفوت، في محيط تل أبيب، القلب النابض اقتصادياً وسياسياً للكيان الصهيوني، تعتلي القاعدة ربوةً ترتفع تسعة وخمسين متراً فوق سطح البحر، وتضمّ ثلاثة مدارج للإقلاع والهبوط، يتصدرها مدرج رئيسي يمتد على مساحة 2388 متراً.
يكسب قرب القاعدة من تل أبيب أهميةً استثنائيةً كمركز حيوي للعمليات الجوية في الجبهة الشمالية للكيان الصهيوني، ولا سيما في مواجهة لبنان.
الوحدات المتمركزة: تحتضن قاعدة تل نوف أسراب مقاتلات F-15I Ra’am، جوهرة تاج سلاح الجو الصهيوني، بما تمتلكه من مدى بعيد وقدرة فائقة على حمل ترسانة من الذخائر الثقيلة.
كما تضمّ القاعدة في جنباتها مروحيات النقل الثقيلة CH-53 Sea Stallion التي تضطلع بدور محوري في نقل القوات وعمليات الإنزال الجوي وإجلاء المصابين في ساحات المواجهة، وخاصةً مع حزب الله اللبناني.
تتخذ من القاعدة مقراً لها وحدات نخبوية كالوحدة 669 (وحدة البحث والإنقاذ القتالي الجوي) ومركز تدريب لواء المظليين في جيش الكيان الصهيوني، تحتضن قاعدة تل نوف أيضاً مركز اختبار الطيران (Manat) التابع لسلاح الجو الإسرائيلي، الذي يُعنى باختبار وتطوير تقنيات عسكرية متطورة.
البنية التحتية: تتمتع هذه القاعدة العريقة، التي شُيدت عام 1941 كقاعدة RAF Aqir إبان الانتداب البريطاني على فلسطين، ببنية تحتية متطورة تشمل ملاجئ محصنة ومستودعات للذخيرة والوقود وأنظمة دفاعية متقدمة.
تتبوأ تل نوف مكانةً مرموقةً كإحدى القواعد الثلاث الرئيسية لسلاح الجو الإسرائيلي (إلى جانب نفاتيم ورامات دافيد) وتضطلع بدور محوري في العمليات الهجومية والدفاعية.
أهمية قاعدة تل نوف في المنظومة العسكرية الصهيونية
الدور الاستراتيجي في العمليات العسكرية: تكتسي تل نوف بأهمية قصوى نظراً لقربها من تل أبيب ولبنان وقدرتها على شن عمليات متعددة في جبهات متنوعة، وخاصةً ضد لبنان وسوريا، تمثّل هذه القاعدة قلب العمليات الجوية الإسرائيلية النابض في المنطقة، تضطلع مقاتلات F-15I ومروحيات CH-53 المرابطة في هذه القاعدة بدور فاصل في عمليات الإنزال الجوي، ونقل القوات في المواجهات الحدودية مع لبنان.
مركز قيادة واستخبارات: تحتضن تل نوف مراكز تحكم وقيادة ووحدات استخباراتية متطورة كالوحدة 8200 (وحدة استخبارات الإشارة)، التي تلعب دوراً محورياً في الحرب الإلكترونية وعمليات التجسس.
عراقة تاريخية: بصفتها أقدم قاعدة لسلاح الجو الإسرائيلي (القاعدة رقم 8)، تتمتع تل نوف بمكانة فريدة من الناحيتين التاريخية والعملياتية وتضطلع بدور محوري في تنسيق وتنفيذ العمليات الحساسة.
دوافع استهداف تل نوف من قبل إيران
منطلق العدوان على إيران: وفقاً لتصريحات اللواء أحمد وحيدي، المستشار الأعلى لقائد الحرس الثوري في إيران، مثّلت قاعدة تل نوف إحدى المنصات الرئيسية للغارات الجوية الإسرائيلية ضد إيران، وقد وقع الاختيار على هذه القاعدة كهدف استراتيجي للرد الإيراني بسبب احتضانها لمقاتلات متطورة ودورها المحوري في العمليات الهجومية.
عمليات الوعد الصادق 2 و3: في سياق العمليات الصاروخية الإيرانية في اکتوبر 2024 (عملية الوعد الصادق 2) وتلاها عملية الوعد الصادق 3، استُهدفت قاعدة تل نوف بسبب ضلوعها في الاعتداءات الإسرائيلية ضد إيران ومحور المقاومة (كحزب الله اللبناني وحماس)، جاءت هذه الهجمات انتقاماً لاغتيال قادة حماس وحزب الله والاعتداءات المتكررة على إيران.
تشير التقارير إلى أنه في عملية الوعد الصادق 2، أصاب أحد عشر صاروخاً باليستياً إيرانياً على الأقل قاعدة تل نوف وألحق دماراً بأجزاء من البنية التحتية العسكرية، بما في ذلك المدرج الرئيسي وأنظمة الدفاع (على الأرجح منظومة السهم 3 أو مقلاع داود).
رسالة استراتيجية: لم يكن استهداف تل نوف مجرد رد على دورها العسكري فحسب، بل شكّل رسالةً صارمةً للكيان الصهيوني ورعاته (خاصةً الولايات المتحدة)، مفادها بأن إيران تمتلك القدرة على توجيه ضربات موجعة للمراكز الحساسة في عمق الأراضي المحتلة، کما برهن هذا الهجوم على تفوق المنظومة الصاروخية الإيرانية ودقتها المتناهية في استهداف البنى التحتية الحيوية.
إن قرب تل نوف من تل أبيب وتورطها في العمليات الإجرامية ضد فلسطين ولبنان وسوريا، حوَّلها إلى هدف رمزي واستراتيجي في نظر القيادة الإيرانية.
تفاصيل الضربات الإيرانية الموجهة لقاعدة تل نوف
في عملية الوعد الصادق 2 (أکتوبر 2024)، أُطلق قرابة مئتي صاروخ باليستي نحو أهداف عسكرية في الكيان الصهيوني، بما فيها تل نوف، أظهرت الصور الفضائية ومقاطع الفيديو المنشورة، إصابات دقيقة للصواريخ في المدرج الرئيسي والبنى التحتية العسكرية لهذه القاعدة الاستراتيجية.
في عملية الوعد الصادق 3 (يونيو 2025)، استُهدفت تل نوف مجدداً، وإلى جانب قاعدة نفاتيم ومراكز عسكرية أخرى، طالت الضربات أكثر من 150 هدفاً استراتيجياً.
نُفذت هذه الهجمات باستخدام صواريخ باليستية فائقة الدقة ومتطورة تقنياً، ووفقاً للتقارير الموثقة، ألحقت دماراً هائلاً بالبنى التحتية العسكرية في تل نوف، رغم مزاعم الكيان الصهيوني بمحدودية الأضرار التي لحقت بالطائرات وقدرات سلاح الجو.
اعتراف الصهاينة بإصابة قاعدة تل نوف: شهادة مرغمة
على الرغم من التعتيم الإعلامي المفروض بقبضة حديدية في الأراضي المحتلة بشأن الهجمات الصاروخية الإيرانية والخسائر الفادحة التي خلفتها، اضطرت وسائل الإعلام الناطقة بالعبرية للإقرار، ولو بإشارات مقتضبة، بالضربة الصاروخية الإيرانية التي استهدفت قاعدة تل نوف والأضرار البالغة التي ألحقتها بمنشآتها.
ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا الاعتراف المضطر بالخسائر التي تكبدتها القاعدة من قبل وسائل الإعلام والمسؤولين الرسميين، لم يجرؤ جيش الكيان الصهيوني حتى اللحظة على نشر أي صور أو لقطات توثق حجم الدمار الذي لحق بهذه القاعدة جراء الصواريخ الإيرانية.
خاتمة المشهد: دلالات وأبعاد
يمثّل الهجوم الصاروخي الإيراني على قاعدة تل نوف الجوية الاستراتيجية في خضم الحرب الاثني عشرية، رسالةً بليغةً متعددة الطبقات ومحسوبةً بدقة متناهية للمنظومة العسكرية والأمنية للكيان الصهيوني ولحلفائه الإقليميين والدوليين.
إن إمطار تل نوف، درة تاج سلاح الجو الإسرائيلي المتربعة في عمق جغرافية الكيان الصهيوني، بوابل من الصواريخ الدقيقة التي أصابت مراكزها العملياتية الرئيسية، يعكس التفوق الاستخباراتي الساحق والدقة المتناهية للمنظومة الصاروخية الإيرانية.
ليست تل نوف مجرد قاعدة عسكرية في الجبهة الشمالية لمواجهة لبنان فحسب، بل هي شريان الحياة للقوة الجوية الإسرائيلية في أي مواجهة شاملة، كان استهدافها بمثابة نذير شؤم لسيناريوهات الحرب المستقبلية.
لقد شكّلت قاعدة تل نوف الجوية، بموقعها الاستراتيجي واحتضانها لمقاتلات ومروحيات متطورة، ودورها المحوري في العمليات الهجومية الإسرائيلية ضد إيران وحلفائها، هدفاً مثالياً للضربات الصاروخية الإيرانية.
هذه القاعدة، باعتبارها جوهرة تاج القوة الجوية الإسرائيلية، تكتسي بأهمية بالغة ليس فقط من المنظور العسكري بل أيضاً من البعد الرمزي، برهنت هجمات إيران على تل نوف في عمليتي الوعد الصادق 2 و3، على قدرة إيران الفائقة على اختراق المراكز الحساسة بدقة متناهية في عمق الأراضي المحتلة، وتوجيه رسالة حازمة للكيان الصهيوني ورعاته.
بهذه العملية النوعية، أثبتت إيران أنها لا تكتفي بالرد على التهديدات فحسب، بل تمتلك القدرة على توجيه ضربات موجعة للمفاصل الاستراتيجية للکيان الصهيوني في ظروف بالغة الحساسية وبتكلفة باهظة يتكبدها الخصم، وهكذا، لم تعد تل نوف مجرد قاعدة أصابها الدمار؛ بل تحولت إلى رمز يؤذن ببزوغ فجر مرحلة جديدة في المواجهة المصيرية بين إيران والكيان الصهيوني.