الوقت - شهدت الآونة الأخيرة في غرب آسيا والقوقاز الجنوبي تحولات مفصلية، تلوح في أفقها بوادر إعادة صياغة المشهد الإقليمي وتوازناته، هذه التحركات، التي تحمل في طياتها أبعاداً استراتيجيةً عميقةً، تجلت إحداها في الزيارة المفاجئة التي قام بها الجولاني، رئيس الحكومة السورية المؤقتة وأحد أبرز وجوه المعارضة السورية، إلى أذربيجان، زيارة أثارت موجات من التحليل والتأويل، إذ حطّ الجولاني رحاله في باكو يوم السبت الماضي، حيث استُقبل بحفاوة رسمية على أعلى المستويات، في مشهد لا يمكن اختزاله في إطار المراسم البروتوكولية المعتادة.
وخلال اللقاءات التي جمعت الجولاني بكبار المسؤولين الأذريين، تم توقيع مذكرة تفاهم للتعاون في مجال الطاقة، نصّت على تصدير الغاز الأذربيجاني عبر الأراضي التركية إلى سوريا في المستقبل القريب، ما قد يسهم في تعزيز أمن الطاقة السوري المتداعي، كما طُرحت إمكانية اضطلاع أذربيجان بدور جوهري في إحياء قطاع الطاقة السوري المنهك، وحسب ما نقلته منصة “ميدل إيست آي”، فقد سعى الجولاني أثناء لقائه بالرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، إلى إقناعه بفتح أبواب الاستثمار أمام شركة النفط الأذربيجانية “سوكار” للعمل في الحقول النفطية الواقعة في شرق سوريا.
منذ أن اعتلى أحمد الشرع، المعروف بـ"أبي محمد الجولاني"، صدارة المشهد في سوريا، سعى إلى تقديم نفسه في صورة سياسية أكثر اعتدالًا ووسطيةً، في محاولة لإعادة تشكيل ملامح شخصيته بما يتماشى مع الضغوط الإقليمية والدولية، وكذلك مع ضرورات التوافقات الاستراتيجية، غير أن هذا التحول الظاهري في الشعارات ظلّ حبيس الأقوال، إذ إن التيار الذي يتزعمه ما زال يقتفي أثر النهج الأيديولوجي القديم لـ"هيئة تحرير الشام"، من خلال ممارساتها العنيفة ضد الأقليات، واستمرارها في احتكار السلطة السياسية دون أي تغيير يذكر.
وعلى الجانب الآخر، تبدو جمهورية أذربيجان منهمكةً في السنوات الأخيرة في إعادة رسم ملامح الجغرافيا السياسية لمنطقة القوقاز وآسيا الوسطى، عبر تأجيج الحروب وزرع بذور عدم الاستقرار، فقد استفادت باكو من موقعها الجيواستراتيجي عند تقاطع غرب آسيا والقوقاز وأوروبا لتعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي والأمني في المنطقة، هذا الطموح التوسعي، الذي اتخذ في الآونة الأخيرة شكلًا أكثر جرأةً، تجسّد في مساعيها لفتح “ممر زانجيزور”، وهو مشروع يحمل في طياته أبعادًا جيوسياسيةً وأطماعًا إقليميةً، دفع أذربيجان إلى نسج تحالف وثيق مع الكيان الصهيوني، فالأخير، بدوافع أمنية وسياسية واقتصادية، يرى في هذا التحالف فرصةً سانحةً لتعزيز نفوذه في آسيا الوسطى، والاقتراب أكثر من حدود الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وفي ظل هذه التطورات، تأتي زيارة الجولاني إلى باكو لتتجاوز حدود العلاقات الثنائية بين الطرفين، إذ تحمل في أبعادها إشارات ترتبط بمصالح طهران الأمنية، ما يجعلها محط أنظار مختلف القوى الإقليمية والدولية.
زيارة الجولاني إلى باكو: أبعاد تتجاوز العلاقات الثنائية
رغم أن زيارة أحمد الشرع إلى جمهورية أذربيجان بدت في ظاهرها متمحورةً حول اتفاقات الطاقة وتعزيز العلاقات الثنائية، إلا أن ما خفي وراء الأبواب المغلقة يحمل أهدافاً أعمق تتجاوز حدود القضايا الرسمية المعلنة، وفقاً لما أوردته بعض وسائل الإعلام، لم تقتصر الزيارة على لقاء المسؤولين الأذريين، بل تضمنت كذلك محادثات مرتقبة بين الشرع وممثلين عن الكيان الصهيوني في باكو.
ليست المحادثات السرية بين المسؤولين السوريين والصهاينة بالأمر الجديد، إذ شهدت الأشهر الأخيرة سلسلةً من اللقاءات بين الطرفين في دول متعددة، وقد لعبت الإمارات سابقاً دوراً محورياً في عملية تقريب الحكومة السورية المؤقتة من تل أبيب، إلا أن هذه المهمة الدقيقة يبدو أنها انتقلت الآن إلى باكو، التي تتمتع بعلاقات وطيدة مع الكيان الصهيوني، وروابط دافئة مع أنقرة، وقنوات خفية مع بعض أطياف المعارضة السورية، ما جعلها ساحةً ملائمةً لمثل هذه المحادثات الحساسة.
على مدى السنوات الماضية، عززت أذربيجان علاقاتها مع الكيان الصهيوني وأقامت معه شراكات وثيقة، لدرجة أن تل أبيب أصبحت من أبرز شركاء باكو في مجالات التكنولوجيا، والتعاون العسكري، والطاقة، وقد تجلت هذه الشراكة في مشاريع عسكرية واقتصادية مشتركة، حيث سعت كلتا الجهتين لتحقيق مصالح متبادلة، ومن أبرز شواهد هذا التعاون، استخدام أذربيجان للطائرات المسيّرة الإسرائيلية خلال حرب قره باغ الثانية عام 2020 لاستهداف مواقع في أرمينيا.
وحسب تقارير متعددة، لم تقتصر العلاقات الاستراتيجية بين أذربيجان وتل أبيب على المجالين العسكري والاستخباراتي، بل امتدت لتشمل أبعاداً ثقافيةً واجتماعيةً، وقد شهدت السنوات الأخيرة تنامي دور الجالية اليهودية في أذربيجان، التي باتت تتخذ تدريجياً طابعاً يشبه “الدياسبورا”، مستفيدةً من دعم تل أبيب، ما منحها دوراً فاعلاً في تعميق النفوذ الإسرائيلي في البلاد، وتُعد هذه الديناميكيات الاجتماعية والاقتصادية جزءاً من استراتيجية "إسرائيل" الكبرى لتعزيز وجودها الدائم قرب الحدود الشمالية لإيران والتأثير في معادلات المنطقة.
وفي ظل هذه الظروف، أصبحت أذربيجان اليوم ليست فقط منصةً لعقد اللقاءات السرية بين ممثلي الحكومة السورية المؤقتة والكيان الصهيوني، بل أيضاً تسعى لتأدية دور الوسيط في عملية تطبيع العلاقات بين الجانبين، إن تعزيز التعاون مع تل أبيب، إلى جانب تطوير الروابط مع المعارضة السورية، فضلاً عن الاستثمار في مشاريع البنية التحتية للطاقة والنقل، يوفّر لأذربيجان فرصاً اقتصاديةً وأمنيةً واعدةً.
تسعى باكو إلى أن تصبح نقطة وصل محورية بين دمشق وتل أبيب، ما يتيح لها توسيع نفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة، علاوةً على ذلك، تسعى أذربيجان إلى استغلال هذا التحالف الناشئ لتحقيق مصالحها الجيوسياسية في قره باغ، مستثمرةً في هذه الديناميكيات الإقليمية لتحقيق طموحاتها الاستراتيجية.
تشكيل جبهة مضادة لإيران
في ظل الشراكة الاستراتيجية التي تجمع الكيان الصهيوني بجمهورية أذربيجان، وارتباطه غير المعلن ببعض زعماء المعارضة السورية، يصعب النظر إلى زيارة أحمد الشرع إلى باكو على أنها مجرد لقاء ثنائي، وفقاً لرؤية المراقبين الإقليميين، تسعى باكو إلى لعب دور الميسّر ضمن إطار مشروع أوسع لإعادة تشكيل النظام الأمني في منطقة القوقاز الجنوبي وغرب آسيا، نظام يستهدف بالأساس احتواء النفوذ الإيراني، بل وربما خنقه جيوسياسياً عبر مسارات أمنية، سياسية، حدودية، وحتى طائفية.
هذا النظام الجديد، الذي تتبلور ملامحه تدريجياً، يقوم على تحالف محوري يجمع بين تل أبيب، ودعم باكو، ومشاركة شخصيات محورية مثل الجولاني، بهدف إعادة رسم خرائط النظام الأمني والسياسي في المنطقة وفق رؤية تتناقض مع المصالح الإيرانية، ومن هنا، فإن زيارة الجولاني الأخيرة إلى باكو ليست سوى حلقة في سلسلة من التحركات المتسارعة التي قد تبدو تكتيكيةً في الوقت الراهن، لكنها تحمل في طياتها بذور تشكيل محور مناهض لإيران في المستقبل القريب، يمتد عبر المناطق المحيطة.
ورغم تأكيدات المسؤولين الأذريين المتكررة بأنهم لن يسمحوا باستخدام أراضي بلادهم كمنطلق لأي تهديد يستهدف وحدة الأراضي الإيرانية، وسعيهم الدائم لإظهار موقف محايد في التوترات بين طهران والأطراف الخارجية، إلا أن الوقائع الميدانية تروي روايةً مغايرةً. ففي أثناء الحرب التي دامت اثني عشر يوماً، وردت تقارير تشير إلى استخدام الطائرات المسيّرة الإسرائيلية للأجواء الأذرية لتنفيذ هجمات داخل الأراضي الإيرانية، وفي هذا السياق، يشكّل التقارب العلني بين باكو وأعداء إيران الإقليميين، ودورها في السيناريوهات المناهضة لإيران، مساراً بالغ الخطورة قد يدفع طهران إلى اتخاذ ردود فعل صارمة ورادعة.
ومع تعاظم هذه التحولات الجيوسياسية، تجد إيران نفسها أمام ضرورة ملحّة لاعتماد استراتيجية شاملة وذكية، تجمع بين القوة الصلبة والنفوذ الناعم، إلى جانب الحضور الميداني المؤثر، واستغلال الدبلوماسية القائمة على البنية التحتية كأداة لتعزيز مصالحها.
إن الحضور المكثف للكيان الصهيوني في منطقة القوقاز الجنوبي، وتوسيع نفوذه بين جماعات المعارضة السورية، يشكل إنذاراً خطيراً للأمن والمصالح الوطنية الإيرانية، وفي ظل هذه التطورات، فإن غياب إيران عن الساحة وإخفاقها في لعب دور فاعل في صياغة المعادلات الجديدة، لا يُعدّ فقط تفريطاً في الفرص، بل هو بمثابة تسليم زمام المبادرة للآخرين، وهو ما يمثّل التهديد الأكبر لمكانة إيران كلاعب إقليمي محوري.