الوقت - لا تقتصر الحرب دائماً على الدمار، فأحياناً تُهدينا من رحم الانفجارات والتشريد أبطالاً استثنائيين. أبطال مثل "زهراء قبيسي"، تلك الفتاة التي أصبح اسمها مألوفاً لدى الجميع. هي ذاتها التي وقفت بمفردها في وجه الدبابات الإسرائيلية، وهي من كانت تشقّ ظلام الليل بسيارتها لإنقاذ العائلات من القصف.
عندما شحّت الأدوية، كانت حملاتها لتأمين الدواء ذات أثر بالغ. وحين تشرّدت العائلات، كانت تشمّر عن ساعديها وتجهز أماكن الإيواء وتنظفها بمفردها. قدمت زهراء كل ما بوسعها، من البحث عن جثامين الشهداء، إلى رعاية الأطفال الأيتام والعمل الجهادي من أجل اليمن وسوريا وفلسطين.
كان بإمكان الابنة الوحيدة المدللة لعائلة قبيسي أن تعيش حياةً عاديةً كباقي الفتيات في عمرها، لكنها اختارت تحمل كل هذه المشقات لتكون جنديةً مخلصةً لسيدها. وكما تقول هي، لترى لحظة الرضا تشعّ في ابتسامة السيد، والأهم من ذلك، لإسعاد صاحب الزمان وإثبات كيف يتفانى الشباب في خدمة المقاومة.
ومن معرفتي بها، أنا على يقين بأنها ستبذل قصارى جهدها في مراسم التشييع ولن تقف مكتوفة الأيدي، لذلك أتواصل معها من إيران إلى لبنان لإجراء هذا الحوار.
المندسون المأجورون المكلفون بتخريب مراسم التشييع
في آخر مرة تحدثنا فيها، كانت تحمل في جسدها ثماني شظايا إسرائيلية وكانت بحاجة لعملية جراحية، لذلك سألتها عن صحتها وعن أحوال لبنان… فسردت لي التفاصيل بدقة، من المصابين الذين يرفضون مشاهدة التشييع من منازلهم رغم ظروفهم الصحية، إلى المندسين المأجورين المكلفين بتخريب المراسم.
"أجريت عملية جراحية الأسبوع الماضي، وما زالت الغرز لم تلتئم وجروحي لم تشفَ بالكامل. ومع ذلك، سأدافع بروحي مثل جميع الناس عن تشييع السيد، لأن هناك في لبنان من يحاول عرقلة هذه المراسم بكل الوسائل، مثلما حدث مع الطائرة الإيرانية. ظهرت أصوات نشاز تقول إن مراسم تشييع السيد يجب ألا تكون مركزيةً، وألا تقام في ملعب كميل شمعون لأنه ملك للدولة. يقترحون أن تقتصر المراسم على العائلة والمقربين فقط. لكن في المقابل، معظم اللبنانيين لديهم رأي مختلف، ويدعمون إقامة هذه المراسم بشكل واسع.
نحن ندافع بكل قوة عن تشييع السيد. الناس يستعدون للمشاركة في المراسم، حتى لو لم يتمكنوا من التواجد في قلب التشييع. بعض العائلات جاءت إلى بيروت قبل يومين أو ثلاثة. البعض سيبيت في سياراتهم، بينما فتح آخرون منازلهم في الضاحية لاستقبال القادمين من الجنوب أو الشمال.
المشكلة أن الضاحية لا تتسع للجميع أساساً. العديد من المنازل مدمرة، وبغض النظر عن موضوع التشييع، بعض هذه المنازل تستضيف بالفعل عائلات فقدت منازلها في الحرب. نحاول مساعدة بعضنا البعض. البعض يستضيفهم أصدقاؤهم ومعارفهم، والبعض ينام في سياراتهم. بعض العائلات قررت ترك النساء والأطفال في المنزل بينما يبيت الرجال في العراء.
من جهة أخرى، جميع الأطفال مصرون على المشاركة في مراسم التشييع. بعضهم يتصور أنهم سيسيرون خلف جثمان السيد كما في تشييع الشهداء الآخرين. لدي صديقة استشهد زوجها وقال لها ابنها إنه يريد الجلوس في السيارة العسكرية والسير مع جثمان السيد، كما فعل في تشييع والده.
جميع الأطفال مصرون على رؤية السيد والمشاركة في مراسم تشييعه. تحاول الأمهات إبقاء أطفالهن الصغار في المنزل والمشاركة فقط مع الأطفال الأكبر سناً. لكن الأطفال يرفضون ذلك تماماً. قررنا مع فريقنا الجهادي تصميم بطاقة اسم ومعلومات لكل طفل، حتى نتمكن من العثور على عائلته إذا ضلّ في الزحام.
حتى كبار السن والجرحى، رجالاً ونساءً، نشجعهم على البقاء في المنزل بسبب الحشود والتهديدات الأمنية واحتمال التخريب، لكنهم يرفضون ذلك ويصرون على المشاركة جميعاً في هذه المراسم".
الشباب المتطوعون لخدمة مراسم التشييع
خلال أيام الحرب، تحولت زهراء وسيارتها المتهالكة - كما تصفها - إلى سيارة أجرة مخصصة للنازحين، تجوب شوارع لبنان ليلاً ونهاراً من الجنوب إلى الشمال ومن الشمال إلى الوسط، تنقل كل من يحتاج إلى النقل لوجه الله تعالى.
ولم يكن يهمّ أن الصواريخ كانت تسقط أحياناً على بعد خطوات منهم، مع احتمال أن تتحوَّلا - هي وسيارتها - إلى رماد في لحظة. أردت أن أعرف إذا كانت زهراء ستعود في الأيام السابقة للتشييع لتكون "تاكسي الضاحية"، وتوصل المشاة العاشقين إلى مراسم التشييع؟!
"رغم أن صحتي لم تتحسن بعد، إلا أنني أتابع هذا الموضوع منذ فترة. فمثلاً، زرت بالأمس عدة عائلات شهداء وجرحى فقدوا أبصارهم، وسألتهم عن كيفية مشاركتهم في المراسم، وإذا كانوا بحاجة لأي مساعدة. إضافةً إلى ذلك، نقوم منذ فترة بجمع التبرعات الشعبية للمراسم. بعض العائلات تبرعت بشراء المياه. نحاول تأمين الماء والطعام وتوزيعهما في المواكب، لأن الناس سيأتون من مدن وقرى أخرى وحتى من دول مختلفة، ونريد استضافتهم وفقاً لتقاليد الضيافة.
ومن المثير للاهتمام أن بعض الشباب تطوعوا لجمع النفايات من الشوارع يوم الأحد حباً بالسيد. في المسيرات الكبرى مثل محرم وعاشوراء، لا نضع سلال للقمامة في الشوارع خشية أن يضع أحدهم فيها متفجرات. لذلك، لدينا متطوعون منذ بداية المسيرة يجمعون النفايات من قوارير المياه والمناديل وغيرها، ويقومون بفرزها ودفنها. الجميع يقف إلى جانب السيد بكل ما يستطيع، ويبذل كل ما يملك من أجله. فمثلاً، قام الطلاب برسم الجداريات في الضاحية".
نحن عائلة السيد!
تتوقف عن الكلام، يطول صمتها، ثم دون أن أسألها عن السبب، تقول بصوت يحمل أثر غصة وإن كانت خفيةً: "يؤلمني قلبي وأنا أتحدث عن تشييع السيد، لكننا سنبذل كل ما في وسعنا لإقامة هذا التشييع بأفضل صورة ممكنة".
وحين تهدأ غصتها، تستأنف حديثها، ناسجةً خيوط التعاطف والمحبة للسيد: "سنفعل كل ما نستطيع من أجل السيد، من رسم الجداريات ونقش اسمه وصورته الجميلة على مباني المدينة، إلى جمع النفايات، وتأمين الأموال للمواكب، والتنسيق لإسكان الناس وغير ذلك. إضافةً إلى ذلك، لدينا ضيوف من الخارج من العراق وإيران واليمن وغيرها، ممن لا يعرفون لبنان. نريد بعد التشييع أن نأخذهم إلى روضة الحوراء لزيارة أضرحة الشهداء، وزيارة الجرحى، ورؤية مكان استشهاد السيد. أريد قدر استطاعتي أن أُري ضيوفنا الأجانب المقاومة وشعب المقاومة.
نحن عائلة السيد، وكل واحد منا يستعدّ للتشييع كما لو فقد أعزّ أحبائه. من المهم لنا أن تظهر في هذه المراسم مكانة السيد بين شعبه، وأن نُظهر للعدو قوة المقاومة وهيبتها".
حالنا اليوم ليس غريباً عليكم أيها الإيرانيون
قبل أن أطرح سؤالي الأخير، تسارعت كلمات زهراء لتبوح بما يختلج في قلبها. هذه المرة، كانت هي من توجّه السؤال لي: "هل تعرف ما هو شعورنا؟!" وتُردف إجابتها مع سؤالها قائلةً:
"نحن نرى تشييع السيد حسن مشابهاً لتشييع الإمام الخميني. كأن نفس ذلك الشعور يُبعث فينا من جديد. ربما الكثير منا لم يكن قد وُلد بعد في ذلك الوقت أو كان صغيراً جداً، لكن هذه الأيام في لبنان تحمل لنا نفس إحساس يونيو 1989 في إيران. حتى مقاطع الفيديو التي بُثت عن استشهاد السيد حسن، استخدمت المراثي نفسها التي وُصف بها الإمام الراحل. حالنا اليوم ليس غريباً عليكم، بل أنتم تفهموننا جيداً - لدينا نفس الشعور الذي كان لديكم يوم كنتم ستشيعون الإمام.
على أي حال، الدم المسفوك للسيد حسن يرفع من معنوياتنا… روح الثورة والمقاومة، روح النضال والتضحية… هذا الحزن في قلوبنا ليس عديم التأثير - فمن خلال هذا الحزن سنواصل طريق السيد حسن، وسنحافظ على أمانته، وسنُركع عدونا".
مثل السيد حتى في الحزن
تنتظر زهراء يوماً صعباً، فهي متعبة من الأيام السابقة للمراسم، وقلقة بشأن يوم التشييع. لا أريد أن آخذ المزيد من وقتها، فحتى الآن كان من الصعب إقناعها بالجلوس للمقابلة. كانت منشغلةً بترتيبات المراسم وهي مريضة، لكنها وافقت على المقابلة لأن الأمر يتعلق بسيدها العزيز. أرسل سؤالي الأخير عبر الهاتف إلى لبنان، وأسأل: "كيف سيكون حال لبنان غداً؟! هل سنرى يوم الأحد آهات الحسرة على الوجوه، أم الغضب والكراهية تجاه العدو؟"
"أعتقد أنه يجب أن يكون لنا الحق في العزاء. الشعور بالحزن حق مشروع لنا. منذ الأيام الأولى لاستشهاد السيد حسن حتى الآن، تماسكت وبقيت قويةً، وفي بعض الليالي كنت أبكي في خلوتي. تعلمنا هذا أيضاً من السيد، فكما كان يواصل أعماله بقوة في النهار عندما استشهد ابنه، ويستقبل الناس والضيوف، ويبكي ليلاً في خلوته… نحن حتى اليوم، ضبطنا أنفسنا ووقفنا أقوياء، لكن غداً سنذرف كل الدموع المحبوسة خلف سدّ أعيننا على جسد السيد. لكن هذا جانب واحد فقط من القضية - فمن الغد، وعلى عكس ما يتصور الآخرون، سنصبح أكثر مقاومةً، وستزداد كراهيتنا واشمئزازنا من العدو، وسنكون أكثر تصميماً على هزيمته. وكما قال قائدنا، ستأتي سنوات احتضار إسرائيل قبل موعد الـ25 عاماً".