الوقت - بعد الانقلاب العسكري الفاشل الذي حصل في تركيا منتصف تموز/يوليو الماضي وتطبيع العلاقات بين أنقرة وموسكو إثر زيارة الرئيس التركي رجب طیب أردوغان إلى "سان بطرسبورغ" ولقائه بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، ذهب الكثير من المراقبين إلى الاعتقاد بأن الحكومة التركية سائرة باتجاه تغيير مواقفها السابقة إزاء المنطقة وتحديداً تجاه الأزمة السورية. فما هي الأسباب التي دعت إلى تبني مثل هذا الاعتقاد؟ وما هي السيناريوهات المحتملة في هذا المجال؟
للإجابة عن هذه التساؤلات لابدّ من الإشارة إلى عدّة حقائق:
- تقوم السياسة الخارجية التركية الحالية على أساس رفع مستوى التوازن في القوى مع الدول الإقليمية المؤثرة في الأزمة السورية لاسيّما إيران وروسيا خصوصاً في الجانبين العسكري والأمني.
- لازالت تركيا تعتقد بأن وجود الرئيس بشار الأسد على رأس السلطة في سوريا يحول دون تنفيذ مخططها الرامي إلى توسيع نفوذها في عموم منطقة الشرق الأوسط.
- تعتقد تركيا بأن العراق وسوريا يقعان الآن ضمن دائرة النفوذ الإيراني والروسي في المنطقة، لكنها تعتقد في الوقت ذاته بأن إيران لا تشكل خطراً أمنياً بالنسبة لها، خلافاً لروسيا التي تنظر لها أنقرة على أنها تسعى لبسط نفوذها الأمني في المنطقة مقابل النفوذ الأمريكي.
- تخشى أنقرة من توسع نفوذ الأكراد في سوريا خصوصاً بعد الانتصارات التي حققتها قوات حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب الكردية على الجماعات الإرهابية لاسيّما "داعش" و "جبهة النصرة"، ودعوتها لإنشاء منطقة حكم ذاتي في شمال وشمال شرق سوريا، لاعتقاد أنقرة بأن ذلك سيمهد الأرضية لحزب العمال الكردستاني بإنشاء منطقة مماثلة في جنوب وجنوب شرق تركيا.
- تسعى أنقرة لتقوية علاقاتها مع إقليم كردستان العراق باعتباره يمثل بالنسبة لها منطقة نفوذ مهمة من الناحيتين السياسية والاقتصادية ويوفر لها بالتالي عمقاً إستراتيجياً يمكنها من مواجهة أيّ متغيرات جيوسياسية في المنطقة سواء ما يتعلق بالأزمة السورية أو بتطورات الأوضاع الميدانية في العراق خصوصاً الاستعدادات الجارية على قدم وساق من قبل القوات العراقية لتحرير محافظة الموصل من الجماعات الإرهابية لاسيّما تنظيم "داعش".
- تسعى تركيا في الوقت الحاضر إلى تصدير أزماتها الداخلية إلى الخارج لاسيّما التي حصلت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة وما رافقها من تهديدات أمنية، وذلك من خلال زجّ نفسها بأزمات مفتعلة من قبيل الإصرار على تكثيف تواجدها العسكري في شمال العراق رغم إعتراض الأخير على هذا التواجد.
- يمكن القول بأن هدف السياسة التركية تجاه سوريا قد تغيّر في الآونة الأخيرة من محاولة إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد إلى محاولة منع الأكراد من إقامة منطقة حكم ذاتي قرب حدودها الجنوبية، وهذا يعني بالتالي إن أنقرة قد إقتنعت أخيراً بأن استمرار نظام الأسد أفضل لها من قيام حكم ذاتي كردي في جنوب تركيا، لأن الخيار الأول يمثل بالنسبة لها مشكلة خارجية، فيما يمثل الخيار الثاني أزمة داخلية وهي بالتأكيد أخطر من الخيار الأول.
- باتت أنقرة تعتقد بأن تسوية الأزمة السورية مع بقاء الأسد على رأس السلطة وعودة الأوضاع إلى طبيعتها في هذا البلد، سيساهم في حل أزمة النازحين السوريين في تركيا، رغم أنها قد إستفادت كثيراً من هذه الأزمة في الضغط على الدول الأوروبية لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية خصوصاً خلال العامين الماضيين.
من خلال قراءة هذه المعطيات يتبين بوضوح انّ تركيا بصدد إعادة جدولة أزماتها والسعي لإيجاد حلول لها إبتداءً من أزماتها الداخلية لاسيّما الأمنية، مروراً بأزمة حزب العمال الكردستاني، وإنتهاءً بالأزمة السورية. ويبدو أن الأزمات الداخلية التي تفاقمت بعد الانقلاب الفاشل هي التي أجبرت حكومة أردوغان على تغيير سياستها الخارجية تجاه المنطقة والأزمة السورية تحديداً لأنها باتت تدرك جيداً بأن عدم الاستقرار الداخلي سيفقدها القدرة على مواجهة الأزمات الخارجية وهذا أمر منطقي لا ينبغي لأنقرة أن تغفل عنه في مثل هذه الظروف الشائكة والحساسة، وهذا يحتم عليها الإسراع في تبني إستراتيجية تنهي أزماتها مع دول الجوار أولاً كي تتفرغ لأزماتها الداخلية التي كانت السبب الرئيس في محاولة الانقلاب الفاشلة باعتقاد معظم المراقبين والتي كادت أن تطيح بحكم حزب العدالة والتنمية إلى الأبد لولا مشاركة الشعب التركي في إحباط هذه المحاولة وإجهاضها قبل أن تتمكن من تحقيق أهدافها.