الوقت - بعد تمكن القوات العراقية من دحر تنظيم "داعش" الإرهابي في مدينة الفلوجة غربي العاصمة بغداد قبل نحو ثلاثة أشهر وبدء الاستعدادات لتحرير مدينة الموصل (400 كلم شمال بغداد) من عناصر هذا التنظيم، بدأت التساؤلات تثار بشأن طبيعة المرحلة القادمة التي ستعقب هذه التطورات، خصوصاً مع تمكن الجماعات الإرهابية وفي مقدمتها "داعش" من تنفيذ عدّة هجمات إرهابية لاسيّما في بغداد رغم الاستقرار السياسي النسبي الذي شهده العراق خلال الأشهر الأخيرة، أيْ بعد تراجع حدّة التظاهرات الشعبية التي تطالب بالإصلاح السياسي ومحاربة الفساد المالي والإداري الذي ينخر في مختلف مفاصل الدولة.
ويعتقد المراقبون أن "داعش" يستهدف من وراء الهجمات الإرهابية في بغداد وغيرها من المدن إلى إيصال رسالة مفادها بأن الأمن والاستقرار في العراق لا يزال بعيد المنال، مشيرين في الوقت نفسه إلى أن هذا التنظيم يسعى أيضاً في الوقت الحاضر إلى إشعال نيران الحرب الطائفية بين السنّة والشيعة من خلال محاولة إستفزاز الشيعة للردّ على تلك الهجمات في المناطق السنيّة رغم فشله في تحقيق هذا الهدف نتيجة وعي الشارع العراقي وحكمة المرجعية الدينية في النجف الأشرف التي تؤكد باستمرار على ضرورة رصّ الصفوف والتلاحم بوجه الإرهاب وهي التي أطلقت قبل عدّة سنوات كلمتها الشهيرة موجهة كلامها للشيعة "لا تقولوا السنّة إخواننا؛ بل قولوا أنفسنا أهل السنّة".
وكان العراق قد شهد بين عامي 2005 و 2007 نزاعاً طائفياً مريراً راح ضحيته الكثير من العراقيين بين قتيل وجريح، وذلك في أعقاب جريمة تفجير مرقدي الإمامين العسكريين عليهما السلام في مدينة سامراء (شمال بغداد) من قبل الجماعات الإرهابية.
وقبل ذلك سعى الإرهابي المدعو "أبو مصعب الزرقاوي"* زعيم تنظيم القاعدة فرع العراق إلى تأجيج الفتنة الطائفية في هذا البلد من خلال محاولة جرّ السنّة لقتال الشيعة عبر تنفيذ سلسلة من العمليات الإجرامية في المدن ذات الأغلبية الشيعية، إلاّ أن هذه المحاولات فشلت أيضاً بفضل حكمة المرجعية الدينية التي دعت الشيعة إلى ضبط النفس واصطفاف الكثير من علماء أهل السنّة إلى جانب المرجعية في إفشال هذا المخطط الرهيب الذي كاد يقضي على اللحمة الوطنية والاجتماعية بين أبناء الشعب العراقي لولا هذا الاصطفاف الديني والوطني.
وتأتي محاولات "داعش" لإثارة الفتنة الطائفية هذه المرّة وفي هذا الوقت بالذات للتعويض عن هزائمه المنكرة والمتكررة على يد القوات العراقية والحشد الشعبي في الكثير من مناطق القتال لاسيّما في محافظات ديالى والأنبار وصلاح الدين وكركوك التي تكبد فيها التنظيم خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.
ومن نافلة القول التأكيد على أن عودة النزاع الطائفي في أيّ مستوى من مستوياته إلى العراق تشكل خطراً كبيراً على وحدة وانسجام هذا البلد نظراً لتعدد طوائفه وقومياته وتنوع إنتماءاته العرقية والمذهبية.
ويجب هنا أن لا نتجاهل أو ننسى حقيقة أن الأجهزة الأمنية العراقية لازالت تفتقد إلى التنسيق والتعاون التام فيما بينها، ما أدى إلى حصول إختراقات أمنية تسببت بوقوع الكثير من العمليات الإرهابية في بغداد وغيرها من مدن العراق، وهذا الضعف الأمني مرتبط إلى حد كبير بالخلافات السياسية وتقاطع المصالح والأهداف المرحلية والإستراتيجية بين أقطاب العملية السياسية في البلد. ونتيجة هذه الخلافات سعت بعض الأطراف إلى التلويح بإمكانية إعلان الانفصال عن الحكومة المركزية في بغداد بمساعدة أطراف أجنبية لاسيّما أمريكا، ما يعني في الحقيقة الدعوة إلى تقسيم البلد على أسس طائفية وقومية، وهذا يشكل في الواقع خطراً كبيراً على وحدة العراق أرضاً وشعباً ويهيء بالتالي الأرضية لنزاعات عرقية ومذهبية لا يمكن التكهن بتداعياتها وآثارها السلبية على مستقبل البلد، خصوصاً مع وجود إمكانية لتوظيف هذه النزاعات في حال حصولها لاسمح الله من قبل الجماعات الإرهابية التي تسعى لتنفيذ عمليات إجرامية وخلط الأوراق لتحقيق أجندات أجنبية تخدم المشروع الصهيوأمريكي الرامي إلى تمزيق المنطقة والاستحواذ على خيراتها والتحكم بمقدراتها.
ومن أهم الأمور التي يحتاجها العراق في هذه المرحلة الحسّاسة والشائكة جداً لتحقيق الأمن والاستقرار في ربوع البلد هي التوصل إلى إتفاقات بين مكوناته السياسية الوطنية بشأن القضايا المصيرية وفي مقدمتها توحيد الجهود لمواجهة الإرهاب والفساد المالي والإداري في آن واحد، ودعم مساعي رئيس الوزراء حيدر العبادي الرامية إلى الاصلاح الشامل من خلال إختيار وزراء تكنوقراط والإبتعاد كلياً عن المصالح الحزبية والفئوية الضيّقة خدمة للصالح العام والمصالح العليا للبلد الذي بات اليوم بأمسّ الحاجة لنبذ الخلافات بكافة أشكالها كي لا يقع السقف على رأس الجميع وحينها لن ينفع الندم.
ومن المناسب جداً التأكيد هنا أيضاً على ضرورة الابتعاد عن التصعيد الاعلامي الطائفي والقومي بين مختلف شرائح المجتمع العراقي التي إكتوت جميعها بنار الإرهاب ودفعت ضريبة الخلافات السياسية والتدهور الأمني، في وقت يفترض فيه أن يتكاتف الجميع من أجل إعادة الاستقرار إلى كافة أرجاء البلاد والشروع ببنائها في شتى المجالات بعد أن دمّرتها الجماعات الإرهابية والمتصيدون في الماء العكر طيلة السنوات الماضية.
------------------------------------------------------------------------------
*الإرهابي "أبو مصعب الزرقاوي" قتل في حزيران/ يونيو عام 2006 بعد مشاركته في تخطيط وتنفيذ سلسلة من الهجمات والتفجيرات الإرهابية في مناطق متفرقة من العراق.