الوقت- بعد فشل المحاولة الإنقلابية الأخيرة في تركيا، شهدت العلاقات بين أنقرة والعديد من العواصم الغربية لاسيّما واشنطن توتراً ملحوظاً بسبب الإنتقادات الشديدة التي وجهتها هذه العواصم لحكومة رجب طيب أردوغان على خلفية الإجراءات الصارمة التي إتخذتها بحق المعارضين والإنقلابيين، وإتهام السلطات التركية للإدارة الأمريكية بالضلوع في هذه المحاولة ودعوتها لتسليم المعارض التركي "فتح الله غولن" الذي يقيم في ولاية بنسلفانيا الأمريكية منذ عام 1999.
وكان أردوغان قد وجّه إنتقادات لاذعة لحلفاء بلاده السابقين من الدول الغربية، متهماً إيّاهم بالوقوف إلى جانب الإنقلابيين ودعم الجماعات الإرهابية التي تستهدف أمن وإستقرار بلاده.
يأتي هذا في وقت يعتزم فيه الرئيس التركي إجراء لقاء مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في التاسع من الشهر الجاري حسبما أعلن أردوغان نفسه خلال منتدى إقتصادي نُظم مؤخراً في أنقرة. وكان بوتين قد وجّه الحكومة الروسية لخوض محادثات مع تركيا لإعادة التعاون معها في مختلف المجالات لاسيّما في المجال الإقتصادي.
وفي وقت سابق أعلنت القيادة التركية بأنها تعتزم إعادة النظر في علاقاتها مع الدول الأخرى على ضوء مواقفها من المحاولة الإنقلابية الفاشلة، حيث أعلنت كل من إيران وروسيا رفضهما التام لهذه المحاولة، في حين وجّهت أنقرة إتهامات للدول الغربية خصوصاً أمريكا بالوقوف وراء هذه المحاولة.
وتتهم تركيا الإدارة الأمريكية أيضاً بدعم أكراد سوريا وتحديداً "حزب الإتحاد الديمقراطي" الذي تقول عنه أنقرة بأنه يمثل إمتداداً لحزب العمال الكردستاني المحظور. وقد تسببت هذه الإتهامات برفع مستوى الرفض الشعبي داخل تركيا ضد الدول الغربية وأمريكا على وجه الخصوص، الأمر الذي يرى فيه المراقبون بأنه سيصب في نهاية المطاف بمصلحة موسكو التي إستعادت علاقاتها مع أنقرة بعد الإعتذار الرسمي الذي تقدم به أردوغان عن إسقاط طائرة السوخوي الروسية قبل عدّة أشهر عندما كانت في مهمة لضرب مقرات ومواقع الجماعات الإرهابية في سوريا.
وبعد إفتضاح حقيقة الأهداف الخفيّة للعواصم الغربية ومن بينها محاولة تقسيم دول المنطقة بما فيها تركيا، بدأ الشعب التركي ونخبه السياسية والإعلامية والثقافية بمطالبة حكومتهم بالإبتعاد عن المعسكر الغربي وتعزيز علاقاتها مع روسيا وإيران تقديراً لموقفهما الرافض للمحاولة الإنقلابية وإمكانية التنسيق معهما في محاربة الإرهاب والتحرك بإتجاه إيجاد حلول لأزمات المنطقة.
من هنا يكتسب اللقاء المزمع بين أردوغان وبوتين أهمية خاصة باعتباره يمثل تغيّراً جوهرياً في سياسة أنقرة الخارجية، خصوصاً بعد أن أدركت تركيا بأن أمريكا وحلفاءها الغربيين يسعون لدعم أكراد سوريا في إقامة إقليم فيدرالي على غرار إقليم كردستان العراق، وهو ما تخشاه أنقرة لأنه سيمهد الأرضية لأكراد تركيا بالمطالبة بإقامة إقليم مماثل في جنوب وجنوب شرق البلاد.
ويبدو أن القيادة التركية قد وعت الدرس جيداً وباتت تعترف بأخطائها السابقة وتكتشف حقيقة النوايا الغربية وعلى وجه التحديد الأمريكية التي لا يمكن الوثوق بها لأنها لا ترى إلاّ مصالحها ولن تتردد في إتخاذ أيّ إجراء مهما كان بعيداً عن المعايير القانونية والأخلاقية من أجل تحقيقها، وهذا الأمر من شأنه أن يجعل أنقرة تفكر مليّاً بإيجاد بدائل لهذه العلاقات الهشّة، وليس هناك طريق أفضل في هذا المجال من تعزيز العلاقات مع روسيا وإيران وباقي دول الجوار لاسيّما العراق وسوريا من أجل القضاء على الإرهاب من جهة، وتطوير العلاقات في شتى المجالات السياسية والإقتصادية والأمنية من جهة أخرى.
ويعتقد الكثير من المراقبين إن موقف أمريكا وحلفائها الغربيين من المحاولة الإنقلابية الفاشلة في تركيا دلل بوضوح على أن الوجود الغربي خصوصاً الأمريكي على أراضي تركيا لم يكن لتعزيز العمل العسكري المشترك عبر حلف شمال الأطلسي "الناتو" بل كان في جزء منه تدخلاً في الشأن الداخلي التركي. وهذا الأمر يعكس صورة سلبية عن شكل العلاقة المستقبلية بين الجانبين.
هذه المعطيات وغيرها تترك إنطباعاً لدى المتابع بأن تركيا باتت أمام خيار مصيري وإستراتيجي يملي عليها أن تكون أكثر حزماً في علاقاتها مع الغرب وأن تستوعب العبر الكثيرة والدروس الكبيرة التي أفرزتها المحاولة الإنقلابية الفاشلة لرسم سياسة جديدة تبعدها عن إمكانية تكرار ما حصل وتعود عليها بالتالي بالنفع والإستقرار، وهذا الأمر لا يمكن تحقيقه في ظل السياسة القديمة مع الغرب التي طعنت تركيا في الظهر وكادت أن تقضي عليها لولا وعي الشعب التركي وحنكة عدد من القيادات السياسية والأمنية التي حالت دون نجاح الإنقلاب وأنقذت البلاد من كوارث كان يراد لها أن تمتد إلى خارج الحدود في إطار سياسة الفوضى الخلاقّة التي تنتهجها أمريكا لتحقيق مآربها في المنطقة.
أخيراً ينبغي القول بأن التقارب بين الدول المهمة والفاعلة في المنطقة خصوصاً روسيا وإيران وتركيا كفيل بإحباط أيّ مخطط غربي يرمي إلى تقسيم دول المنطقة والعبث بمقدراتها، وتهيئة الأرضية لإعادة الأمن والإستقرار إلى عموم الشرق الأوسط بعيداً عن أيّ نفوذ أو تدخل أجنبي.