الوقت - لا يُمكن فهم السياسة الخارجية الروسية من دون البحث في خلفيات الإيديولوجيا التي تقف وراء هذه السياسة وسبر أغوار التفكير السياسي لقادة الكرملين لاسيّما الرئيس "فلاديمير بوتين".
ومن بين أهم النظريات التي تركت تأثيراً واضحاً على سياسات الكرملين الخارجية على مدى السنوات القليلة الماضية هي نظرية " النزعة الأوراسية" التي تؤكد على الهوية المتميزة لروسيا مقابل الغرب، وتشدّد على ضرورة أن تتخذ موسكو مواقف مستقلة في الساحة الدولية وتقوية العلاقات والتحالف مع القوى الإقليمية وفي مقدمتها الصين والهند وإيران.
ويقف وراء هذه النظرية البروفيسور "الكسندر دوغين" الذي يطلق عليه البعض صفة العقل المدبر لسياسات الكرملين، وهو يعد من أشهر المفكرين الروس في الوقت الحاضر، ومؤسس تيار "النيو الأوروبية الآسيوية"، ومن أشد منتقدي "العولمة".
ويعتقد "دوغين" أن على روسيا أن يكون لها حضور مؤثر في السياسة العالمية، وقيادة التيار المناهض للديمقراطية الليبرالية. وكانت هذه النظرية من الأسباب التي دعت وزارة الخزانة الأمريكية الى درج إسمه على قائمة العقوبات الخاصة بالوزارة. ومن أجل التعرف أكثر على هذا المنظر الروسي ونظرياته السياسية نشير الى نبذة مختصرة من حياته:
ولد "دوغين" في عائلة عسكرية في يناير 1962، وكان والده ضابطاً كبيراً في "الاستخبارات العسكرية السوفياتية". وعمل دوغين بتوصية من والده في قسم الوثائق الروسية في "الكي جي بي". ونتيجة لاطلاعه ودراسته لهذه الوثائق التي لم يعلم بوجودها سوى قلة قليلة من الناس، إستطاع البحث والتحقيق في الفاشية والأوراسية والنظريات المختلفة، ويكوّن آراءً بشأنها.
وبعد إنهيار الإتحاد السوفياتي في مطلع تسعينات القرن الماضي لعب "الكسندر دوغين" دوراً في إنشاء حزب (ليمونوف) وشارك في نشر عدّة منشورات، وواصل نشاطاته السياسية عن طريق ذلك. وكان واحداً من الذين ساهموا في كتابة النظام الأساسي للحزب الشيوعي في الإتحاد الروسي، الذي دبّت فيه روح جديدة تحت قيادة السياسي الشيوعي "غينادي زوغانوف". وكان نتاج هذا النظام الأساسي ذا لهجة قومية أكثر من الماركسية.
وفي عام 1998 إنسحب "دوغين" من حزب (ليمونوف) لأسباب أيديولوجية وأصبح مستشاراً لرئيس مجلس الدوما الروسي آنذاك "غينادي سيليزنيوف"، وتولى رئاسة مركز التجربة الجيوسياسية ومجلس الامن القومي لدى رئيس مجلس الدوما. وبدأ "دوغين" في الوقت نفسه بإلقاء محاضرات في الموضوع الجيوسياسي في هيئة الأركان العامة الروسية، وهو يجيد 8 لغات أجنبية.
الأوراسية والنيو أوراسية
يري "دوغين" أن روسيا تنتمي إلى الشرق ثقافياً، ويجب أن تقف كزعيم في وجه العالم الأحادي القطب "الغربي - الأمريكي". وكان قصده مما يسميه أوراسيا، روسيا الكبيرة التي لديها حلفاء بينها إيران وتركيا والصين والهند وبعض الدول في أوروبا الشرقية. ويقول في تعريف الأوراسيا بأنها فلسفة سياسية مع ثلاثة مستويات (خارجية ووسطى وداخلية).
فعلى المستوى الخارجي، تشتمل هذه النظرية على عالم متعدد الأقطاب، أي هناك أكثر من مركز دولي لصنع القرار، أحدها الأوراسيا التي تضم روسيا ودول الإتحاد السوفيتي السابق.
ويتابع "دوغين": "الأوراسية على المستوى المتوسط، تقول بإلتقاء دول الإتحاد السوفيتي، إلى جانب نموذج عابر للحدود، أي تشكيل دول مستقلة. أمّا على مستوى السياسة الداخلية، فهي تعني تحديد الهيكل السياسي للمجتمع وفقاً للحقوق المدنية، وعلى أساس أقسام من نموذج الليبرالية والقومية".
هذه المستويات الثلاثة في فلسفة الأوراسية هي التي يتشكل على أساسها نوع واحد من السياسة الخارجية فقط، وهي سياسة مستقلة عن العولمة، والعالم الأحادي القطب والقومية والإمبريالية والليبرالية. ولهذا تعدّ الأوراسية بشكل عام نموذجاً فريداً للسياسة الخارجية.
النظرية السياسية الرابعة
حاول "دوغين" في كتابه المعنون "النظرية السياسية الرابعة" التنظير لرؤيته المتمثلة في النيو أوراسية. ويقول في هذا الكتاب الذي نشر في روسيا عام 2009: "لقد إنتهى القرن العشرون، ونحن الآن فقط بدأنا ندرك ذلك بشكل كامل، لقد كان القرن العشرون قرن الأيديولوجيات".
وفي شرحه لما يعنيه من النظرية الرابعة، يذكر دوغين ثلاث أيديولوجيات حيّة وحاضرة في القرن العشرين هي الفاشية والشيوعية والليبرالية، ويتابع: "منذ هزيمة الفاشية والشيوعية وذهابهما في طي التاريخ، فإن الليبرالية بدأت تصول وتجول في الساحة دون منازع، وتتظاهر بأنها ليست أيديولوجية إلى جانب الأيديولوجيات الأخرى، بل هي واحدة من مكونات الحياة الإنسانية "الطبيعية".
وبحسب "دوغين"، مع إنهيار الإتحاد السوفياتي، تبيَّن أن مصير الإنسان و"نهاية التاريخ" ليس بالطريقة الماركسية، بل كان يبدو أنه بالشكل الليبرالي الذي كان الفيلسوف الأمريكي "فرانسيس فوكوياما" قد سارع إلى توعية الإنسانية منه، عبر الإعلان عمّا يسميه "نهاية التاريخ" والنصر المؤكد والدائم للسوق الحرة والليبرالية والديمقراطية البرجوازية.
ويريد "دوغين" في كتابه من خلال طرح نظرية رابعة، والتي هي "النيو أوراسية" أن يضع هذه النظرية في مقابل الليبرالية. كما يسعى لتقديم السياسة الرابعة كبديل يشمل المنافسين السابقين لليبرالية والأطلانتس، وهي في الواقع مزيج من التيارات غير الليبرالية في روسيا أولاً، ومن ثم في العالم.
ويعتقد "دوغين" أن أمريكا تقود "الدكتاتورية العالمية" التي تّدعي أن التاريخ لا يعيد نفسه، وأنه أحادي الإتجاه ومركزه أمريكا التي تنظر إلى نفسها بإعتبارها قمة كل الحضارة الغربية". ويقول إن هذه الفكرة تضع العالم تحت الوصاية الأمريكية وكأنها تخلق بذلك "معسكر إعتقال عالمي".
ويرفض "دوغين" المفهوم الغربي للحرية، ويصفه بـ "نموذج العبودية الأكثر إثارة للإشمئزاز، لأنه يدمّر كل أشكال الهوية الجماعية، ويجعل الفرد متحرراً من أي نوع من القيود، بما في ذلك الأخلاق، والهوية والضوابط الإجتماعية أو العرقية".
وتتجسد النظرية السياسية الرابعة في رأي دوغين في الإتحاد ضد الليبرالية الديمقراطية، وتعزيز قيم الثقافة والتقاليد الوطنية. ويرى هذا المفكر الروسي أن الكثير من قيم الليبرالية الديمقراطية هو غربي، بعد ما تمّ فرض النموذج الإنجلوسكسوني للثقافة والحكم، على بقية العالم، مما جعل "الليبرالية" القائمة على التحرر من جميع أشكال الهوية الجماعية، نوعاً من الإبادة الثقافية.