الخطة الجدیدة التی طرحتها الولایات المتحدة الأمریکیة مؤخرا لتسویة النزاع العربی - الإسرائیلی واجهت معارضة شدیدة من قبل الفصائل والقوی الفلسطینیة وشهدت مختلف مدن وقری قطاع غزة والقدس المحتلة موجة کبیرة من الاحتجاجات ضد هذه الخطة. وتأتی هذه الخطة التی تقدم بها وزیر الخارجیة الأمیرکی جون کیری قبل نحو سنتین من نهایة الولایة الثانیة لإدارة الرئیس الأمیرکی الدیمقراطی باراک أوباما.
وفی خضم الأحداث المتسارعة التی شهدتها الدول العربیة جراء الصحوة الإسلامیة فی السنوات الثلاثة الماضیة قامت الدول الغربیة بزعامة أمیرکا بطرح هذه الخطة الغامضة لتفعیل عملیة التسویة بین الدول العربیة والکیان الصهیونی.
والشیء الجدیر بالاهتمام هو التشابه الکبیر بین هذه الخطة ومبادرة التسویة التی اقترحها ملک السعودیة عبد الله بن عبد العزیز فی بیروت عام 2002 إلی درجة أن خطة کیری أخذت توصف علی أنها " الخطة المتکاملة لمبادرة الملک عبد الله ".
وهذه الخطة تعکس بوضوح أسباب التقارب بین الکیان الصهیونی والنظام السعودی خلال السنوات الثلاثة الأخیرة والتی یراد منها فی الحقیقة منح الغطاء " القانونی" و" الشرعیة" الدولیة لتعاون الریاض وتل أبیب فی مواجهة جبهة المقاومة خلال الأشهر القلیلة الماضیة.
وتتضمن خطة کیری مجموعة من القضایا بینها تحدید وضعیة القدس الشریف، وعودة اللاجئین، وترسیم الحدود، وتشکیل الدولة الفلسطینیةوفی نهایة المطاف الإسراع بعملیة تطبیع العلاقات العربیة - الإسرائیلیة وهو تضمنته أیضا المبادرة التی اقترحها ملک السعودیة علی وجه التحدید.
والقضیة المحوریة فی مبادرة الملک عبد الله ترتکز علی ضرورة عودة " إسرائیل" إلی حدود عام 1967 وتشکیل الدولة الفلسطینیة علی هذه الحدود مقابل اعتراف الدول العربیة بالکیان الصهیونی الغاصب.
وقد أکدت خطة کیری علی هذه المسألة بالذات " اعتراف العرب بالکیان الصهیونی وتشکیل الدولة الفلسطینیة " التی وردت أیضا فی قرار مجلس الأمن الدولی 1397. وبذلک یمکن القول أن هذه الخطة تمثل النسخة المتکاملة لمبادرة الملک عبد الله.
وتسمح هذه الخطة بعودة بعض الأسر الفلسطینیة المشردة إلی الضفة الغربیة ورفح أو غزة، وتمنح البعض الآخر من هذه الأسر تعویضات مالیة أو ما یطلق علیه "حق الهجرة".
وتدعو الخطة بعض الدول العربیة فی الخلیج الفارسی بینها المملکة العربیة السعودیة، والإمارات العربیة المتحدة والکویت وقطر إلی تأسیس صندوق باسم " حق العودة " لتقدیم الدعم المادی إلی الفلسطینیین.
وفیما یتعلق بحدود عام 1967 تنص الخطة علی أن یکون الجدار العازل هو الحد " الأمنی " الفاصل بین" الدویلة الیهودیة" والحدود المؤقتة للدولة الفلسطینیة.
وفیما یرتبط بالمستوطنات تنص خطة کیری أیضا علی ضرورة وقف البناء فی عدد من المستوطنات التی اقرها الکیان الصهیونی ولکنها لا تشمل المستوطنات الکبیرة الواقعة فی أطراف مدینة القدس وغور الأردن ومن بینها مستوطنة معالیه أدومیم و..
وتنص الخطة کذلک علی إبقاء القدس الشرقیة تحت تصرف الإدارة المشترکة للمجتمع الدولی والجانبین الفلسطینی والإسرائیلی إضافة إلی الأردن ولمدة 10 سنوات، فیما تبقی القدس الغربیة بکاملها تحت تصرف الکیان الصهیونی الغاصب طیلة هذه المدة.
والفرق الوحید بین خطة کیری ومبادرة الملک السعودی یکمن فی توقیت هاتین الخطتین حیث تقدم الملک عبد الله بمبادرته عندما بدأت أمیرکا مرحلة جدیدة من مغامراتها العسکریة فی عدد من دول العالم وتحدیدا أثناء غزوها لأفغانستان ومن بعدها العراق، وبمعنی آخر عندما کانت الولایات المتحدة فی أوج قدرتها، فی حین تم طرح خطة کیری عقب انتهاء هذه المغامرات وبعد أن منیت الولایات المتحدة بهزائم مشینة.
وکانت حصیلة مبادرة ملک السعودیة فی وقتها ظهور موجة من الاحتجاجات والانتفاضات الشعبیة فی مختلف أرجاء العالم الإسلامی لاسیما فی فلسطین المحتلة والتی تبلورت فی دعم الانتفاضة الفلسطینیة الثانیة والتی أطلق علیها فی حینها اسم " انتفاضة الأقصی".
والأمل الوحید الذی تعقده الإدارة الأمیرکیة هذه الأیام علی خطة وزیر خارجیتها یکمن فی مدی قدرتها علی الهاء الشعوب والدول الإسلامیة لاسیما فی منطقه جنوب غرب آسیا بالتطورات الداخلیة التی تشهدها بلدانها ابتداءً من مصر وتونس والیمن والبحرین مروراً بسوریا وباکستان و...
وعلی الرغم من مزاعم الحکومة الأمریکیة الحالیة بتحدید السنوات الأخیرة من عمرها لتسویة القضیة الفلسطینیة ولکن الحقائق تؤکد أن حکومة الرئیس الدیمقراطی باراک اوباما لا تختلف عن حکومة سلفه الجمهوری جورج بوش فی کونها لیست جادة فی إیجاد تسویة للقضیة الفلسطینیة ولا تستهدف سوی خداع الدول العربیة، إذ أن بوش کان یزعم أیضا بأنه یسعی لحل هذه القضیة فی الأشهر الأخیرة من ولایته الثانیة من خلال ما سمی بـمؤتمر " آنا بولیس" عام 2007 إلا أن شیئا من بنود هذا المؤتمر لم یتحقق علی ارض الواقع بالمرة.
ومع تصاعد حدة التظاهرات التی ینظمها آلاف الفلسطینیین لا سیما فی قطاع غزة (القاعدة التقلیدیة للمقاومة) والقدس الشریف ( القبلة الأولی للمسلمین) ضد خطة کیری یتبین بوضوح أن المقاومة الفلسطینیة ثابتة علی مبادئها وواعیة لجمیع التحرکات الغربیة التی تستهدفها رغم التطورات المعقدة التی تشهدها المنطقة. وتؤکد هذه التظاهرات أن الجهاد والمقاومة هما الخیار الوحید أمام الشعب الفلسطینی لاستعادة أرضه وحقوقه المغتصبة وصیانة مقدساته من براثن الکیان الصهیونی، الأمر الذی باستطاعته إثارة انتباه جمیع شعوب المنطقة من جدید إذا ما قدر له أن ینتشر فی کافة الأراضی الفلسطینیة المحتلة.
ولا یجدر أن تغیب عن أذهاننا حقیقة أن فداحة الظلم الذی تعرض له الشعب الفلسطینی المسلم والتی أثقلت کاهل الوجدان العربی تعد فی الواقع القاعدة الأساسیة لانطلاق الثورات الإسلامیة بالمنطقة فی السنوات الأخیرة. کما تمثل ثورة الشعب الفلسطینی ضد الاحتلال والاستبداد مصدر الهام کبیر للانتفاضات التی تقوم بها شعوب المنطقة هذه الأیام. ولهذا فإن هذه الانتفاضات ورغم انشغالها بالتطورات الداخلیة فی بلدانها إلا إنها لا یمکن أن تغفل عن مصدر إلهامها الأصلی ألا وهو الدفاع عن القضیة الفلسطینیة وثورة شعبها المظلوم وحقوقه المغتصبة.