الوقت- في الحروب الحديثة، لا تُستهدف الجيوش وحدها، بل تُستهدف الحقيقة ذاتها، وفي الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، تحوّل الصحفي الفلسطيني من ناقل للخبر إلى هدف مباشر، ليس فقط في جسده، بل في بيته، وعائلته، وأطفاله، الأرقام الصادمة التي وثّقتها نقابة الصحفيين الفلسطينيين والمكتب الإعلامي الحكومي في غزة تكشف عن نمط غير مسبوق من الانتهاكات، يرقى إلى سياسة ممنهجة تهدف إلى كسر إرادة الصحفيين، ومحاصرة الرواية الفلسطينية، وتجريد العالم من حقه في معرفة ما يجري على الأرض.
أرقام تكشف حجم الجريمة
وفق رصد وتوثيق نقابة الصحفيين الفلسطينيين، قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي ما يزيد على 706 من أفراد عائلات الصحفيين منذ بدء الحرب على غزة. أطفال، نساء، كبار سن، قُتلوا لا لشيء سوى أن أحد أفراد أسرتهم يحمل كاميرا، أو يكتب تقريرًا، أو يوثق مجزرة، وفي الوقت ذاته، سجّل المكتب الإعلامي الحكومي في غزة استشهاد 257 صحفيًا حتى اليوم، جراء استهدافات إسرائيلية مباشرة، في رقم يُعد الأعلى في تاريخ النزاعات المسلحة الحديثة.
هذه الأرقام لا يمكن التعامل معها كخسائر جانبية أو “أضرار عرضية” ناتجة عن حرب كثيفة النيران، فهي، وفق الوقائع الميدانية والتقارير الحقوقية، تعكس نهجًا منظمًا يستهدف الصحفيين وعائلاتهم بشكل متعمد، ضمن استراتيجية أوسع لمحاصرة السردية الفلسطينية وإسكات أي صوت يوثق الجرائم المرتكبة بحق المدنيين في غزة.
من الاستهداف الفردي إلى العقاب الجماعي
اللافت في هذه الانتهاكات ليس فقط عدد الضحايا، بل طبيعة الاستهداف، فالقصف لم يقتصر على مواقع عمل الصحفيين أو أماكن وجودهم الميداني، بل امتد ليشمل منازلهم بشكل مباشر، وفي حالات موثقة، أُبيدت عائلات كاملة، وبقي الصحفي وحيدًا شاهدًا على فناء أسرته، هذا النمط من الاستهداف يحوّل الجريمة من اعتداء على فرد إلى عقاب جماعي، في خرق صارخ لأبسط قواعد القانون الدولي الإنساني.
وتشير تقارير نقابة الصحفيين الفلسطينيين إلى أن الاحتلال لم يكتفِ بتدمير منازل الصحفيين، بل لاحق عائلاتهم حتى بعد نزوحهم، حيث تم قصف أماكن النزوح والخيام التي لجأت إليها الأسر بعد تدمير بيوتها، فضلًا عن تكرار القصف في مناطق معروفة بسكن الصحفيين وعائلاتهم، دون إنذارات فعالة أو إجراءات تحذيرية حقيقية.
استهداف ممنهج لا حوادث عرضية
تحاول حكومة الاحتلال الاسرائيلي، كما في كل مرة، تبرير جرائمها بالحديث عن “أخطاء غير مقصودة” أو “أضرار جانبية” ناجمة عن العمليات العسكرية، غير أن تكرار الاستهداف، وانتشاره الجغرافي، وتطابق أنماطه، ينفي تمامًا هذه الادعاءات، فحين يُقصف منزل صحفي معروف، ثم تُقصف خيمة نزوحه، ثم تُستهدف منطقة يقيم فيها عدد من الصحفيين، يصبح الحديث عن الصدفة ضربًا من التضليل المتعمد.
الأرقام تُظهر أن مئات الأطفال والنساء وكبار السن استشهدوا فقط بسبب الصلة المهنية لأحد أفراد الأسرة بالعمل الصحفي، وهذا يشير بوضوح إلى أن الاحتلال يسعى إلى نسف الحماية الاجتماعية للصحفي، وتحويل مهنته إلى عبء يهدد أقرب الناس إليه، في محاولة لدفعه إلى الصمت أو الانسحاب من الميدان.
جريمة مكتملة الأركان في القانون الدولي
من منظور القانون الدولي الإنساني، فإن استهداف عائلات الصحفيين يشكّل جريمة مكتملة الأركان، فاتفاقيات جنيف، ولا سيما الاتفاقية الرابعة، تحظر بشكل قاطع استهداف المدنيين، وتُلزم أطراف النزاع باحترام مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين، كما أن الصحفيين المدنيين يتمتعون بحماية خاصة باعتبارهم أشخاصًا مدنيين، ما لم يشاركوا مباشرة في الأعمال العدائية.
وعندما يُستهدف الصحفي بسبب عمله الإعلامي، ثم تُستهدف عائلته ومحيطه السكني، فإن ذلك يشكّل انتهاكًا مزدوجًا: انتهاكًا لحق الحياة، وانتهاكًا لحرية الصحافة، بل إن بعض الخبراء القانونيين يرون أن هذا النمط من الاستهداف قد يرقى إلى جريمة حرب، وربما جريمة ضد الإنسانية إذا ثبت أنه جزء من سياسة عامة وممنهجة.
تقويض حرية العمل الإعلامي وحق العالم في معرفة الحقيقة
لا يمكن فصل استهداف عائلات الصحفيين عن الأثر الأوسع لهذه الجرائم على المشهد الإعلامي، فقد أدت هذه السياسة إلى تقويض حرية العمل الصحفي، وخلق بيئة عمل شديدة الخطورة، يعمل فيها الصحفي تحت تهديد دائم بفقدان حياته أو حياة أحبائه، وهذا لا يؤثر فقط على الصحفي الفرد، بل على جودة التغطية الإعلامية وقدرتها على الاستمرار.
فالصحفي الذي يرى عائلته تُستهدف، أو يعلم أن وجوده في الميدان قد يعرض أطفاله للموت، يُدفع قسرًا إلى الاختيار بين واجبه المهني وحقه الإنساني في حماية أسرته، وهنا، لا يكون الاعتداء على الصحفي وحده، بل على حق العالم بأسره في المعرفة، وفي الوصول إلى رواية مستقلة عمّا يجري في غزة.
منع الصحفيين الدوليين… عزل غزة إعلاميًا
تتفاقم خطورة هذه الانتهاكات في ظل منع "إسرائيل" للصحفيين الدوليين من دخول قطاع غزة طوال فترة الحرب، هذا المنع لم يكن إجراءً أمنيًا عابرًا، بل سياسة واضحة تهدف إلى عزل غزة إعلاميًا، ومنع التوثيق المستقل للجرائم المرتكبة بحق المدنيين.
ونتيجة لذلك، أصبح الاعتماد شبه الكامل على الصحفيين الفلسطينيين لنقل الأخبار والصور والفيديوهات إلى العالم، هؤلاء الصحفيون وجدوا أنفسهم في ظروف عمل بالغة القسوة: قصف متواصل، نقص في المعدات، تدمير للمنازل ومقار العمل، خسائر بشرية في صفوف زملائهم، وفوق ذلك كله، استهداف مباشر لعائلاتهم.
بين الصمت الدولي وواجب المحاسبة
رغم وضوح الانتهاكات، لا يزال الرد الدولي دون مستوى الجرائم المرتكبة، بيانات الإدانة الخجولة لم توفر حماية للصحفيين، ولم تردع الاحتلال عن مواصلة استهدافهم، هذا الصمت، أو التواطؤ غير المعلن، شجّع "إسرائيل" على المضي قدمًا في سياسة الإفلات من العقاب.
من هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى فتح تحقيق دولي عاجل ومستقل في جرائم استهداف الصحفيين وعائلاتهم في غزة، وإدراج هذه الانتهاكات ضمن ملفات الملاحقة القانونية الدولية، سواء أمام المحكمة الجنائية الدولية أو غيرها من الآليات القضائية المختصة، فاستهداف أسر الصحفيين ليس جريمة ثانوية، بل جزءاً أساسياً من منظومة القمع وكسر الرواية.
معركة الرواية والعدالة
ما يجري في غزة ليس فقط حربًا على الأرض، بل حرباً على الذاكرة، وعلى الشهادة، وعلى الكلمة، استهداف الصحفيين وعائلاتهم يكشف خوف الاحتلال من الصورة، ومن الكاميرا، ومن القصة التي يرويها الفلسطيني عن نفسه، لكن دماء الأطفال والنساء التي سالت بسبب “القرابة المهنية” لن تُمحى بالصمت، ولن تُدفن تحت الركام.
إن حماية الصحفيين ليست مسألة مهنية فحسب، بل قضية أخلاقية وإنسانية عالمية، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم ليست خيارًا سياسيًا، بل التزاماً قانونياً وأخلاقياً، إن أراد العالم أن يحافظ على ما تبقى من منظومة العدالة الدولية، وعلى حقه في معرفة الحقيقة.
