الوقت - في الأشهر الأخيرة، تجاوز التوتر اللفظي والإعلامي بين الجزائر والإمارات العربية المتحدة الخلافات الدبلوماسية المعتادة، وأصبح مؤشراً على تنافس جيوسياسي أعمق في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل.
ما بدأ في البداية بهجمات إعلامية واتهامات بالهوية هو في الواقع انعكاس لمواجهة نهجين مختلفين للنظام الإقليمي: من جهة، الجزائر، التي تعتبر نفسها وريثة تقاليد الاستقلال وعدم الانحياز، وقد بنت شرعيتها الجيوسياسية على دعم الحركات المناهضة للاستعمار، والقضية الفلسطينية، ومعارضة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ومن جهة أخرى، الإمارات العربية المتحدة، التي أصبحت فاعلاً براغماتياً، اقتصادي التوجه، وتدخلياً في العقد الماضي، وتسعى إلى إنشاء شبكة نفوذ اقتصادي-عسكري عابرة للإقليم.
يجب البحث عن جذور التوتر بين البلدين في صراع مباشر للمصالح الاستراتيجية، ترى الجزائر في شمال إفريقيا والساحل مجال نفوذها الطبيعي؛ منطقة يرتبط استقرارها ارتباطاً مباشراً بالأمن القومي للبلاد.
في المقابل، دخلت الإمارات العربية المتحدة بشكل متزايد في المجال نفسه منذ منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، حيث استثمرت في الموانئ، وشاركت في الصناعات الدفاعية، ودربت قوات الأمن، بل دعمت جهات عسكرية غير حكومية في مناطق الأزمات، من وجهة نظر الجزائر، يتجاوز هذا الانخراط النشط التعاون الاقتصادي الاعتيادي، ويعزز الشكوك حول مشروع تشكيل نظام قوة جديد؛ نظام تكتسب فيه جهات فاعلة صغيرة لكنها غنية، معتمدة على رأس المال وشبكات الأمن، نفوذًا لا يتناسب مع حجمها الجغرافي والديموغرافي، كما فاقمت الخلافات حول قضايا مثل ليبيا والصحراء الغربية هذه الفجوة.
في الأزمة الليبية، دعمت الجزائر العملية السياسية لحكومة الوفاق الوطني، بينما قدمت الإمارات العربية المتحدة الدعم العسكري واللوجستي لقوات خليفة حفتر، وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، تعارض تطبيع الإمارات للعلاقات مع "إسرائيل" في إطار "اتفاقيات إبراهيم" بشكل واضح مع الخطوط الحمراء للسياسة الخارجية الجزائرية.
إضافةً إلى ذلك، أثارت مزاعم وسائل الإعلام بتورط شبكات إماراتية في قضايا الهوية والعرق الجزائريين حساسيات محلية في البلاد، وصعدت التوترات إلى مستوى الرأي العام، باختصار، ما يتجلى اليوم في شكل خلاف لفظي هو نتيجة خوف الجزائر من التراجع الجيوسياسي في مواجهة لاعب ناشئ يمتلك أدوات نفوذ متعددة الطبقات.
لكن السؤال الأهم هو لماذا تركز الإمارات العربية المتحدة كل هذا التركيز على أفريقيا؟ يجب البحث عن الإجابة في ثلاثة محاور رئيسية: الاقتصاد، والأمن، والمكانة الدولية.
من منظور اقتصادي، تُعدّ أفريقيا سوقًا استهلاكية متنامية ومستودعًا هائلًا للموارد الحيوية، سعت الإمارات العربية المتحدة إلى ترسيخ مكانتها في سلاسل التوريد العالمية من خلال الاستثمار بكثافة في الموانئ التجارية، والبنية التحتية اللوجستية، والطاقة الأحفورية والمتجددة، وقطاع التعدين، حصلت شركات مثل موانئ دبي العالمية ومجموعة موانئ أبوظبي على امتيازات لبناء أو إدارة موانئ رئيسية في مناطق مثل مصر، وأنغولا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وتنزانيا، والسنغال، وموزمبيق، وأرض الصومال، وهي شبكة تشمل فعليًا الممرات البحرية من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الهندي.
من منظور أمني، أدركت الإمارات العربية المتحدة أيضًا أن حماية هذه الاستثمارات أمرٌ مستحيل عمليًا دون وجود عسكري غير مباشر وبناء قدرات دفاعية في الدول المضيفة، لهذا السبب، ومنذ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، جعلت الإمارات من التدريب العسكري والتعاون الأمني إحدى الأدوات الرئيسية لسياستها الخارجية، ومن الأمثلة البارزة على ذلك تدريب القوات الصومالية، وتمويل وتجهيز قوة شرطة بونتلاند البحرية لمكافحة القرصنة في خليج عدن، وتدريب الحرس الجمهوري في إثيوبيا، وإنشاء كلية محمد بن زايد الدفاعية في موريتانيا لتدريب ضباط من دول مجموعة دول الساحل الخمس، وإرسال فرق تدريب إلى تشاد ومالي، وفي السنوات الثماني الماضية، وقّعت الإمارات ما لا يقل عن ثماني اتفاقيات لمكافحة الإرهاب مع دول أفريقية، وشاركت بانتظام في برامج تدريبية متعددة الأطراف.
من منظور جيوسياسي، تسعى الإمارات العربية المتحدة إلى الارتقاء بنفسها من "دولة هامشية في منطقة الخليج" إلى قوة إقليمية متوسطة الحجم؛ قوة فاعلة قادرة على حماية الممرات البحرية والموارد الحيوية وطرق التجارة على نطاق أوسع من محيطها المباشر، وفي هذا السياق، يُعد إنشاء شبكة مرنة من القواعد العسكرية في أفريقيا أمرًا بالغ الأهمية.
إن قاعدة عصب في إريتريا، التي لعبت دوراً رئيسياً في دعم العملية اليمنية، وقاعدة الخادم في شرق ليبيا، التي كانت مخصصة لعمليات الطائرات من دون طيار دعماً لقوات حفتر، واستخدام قاعدة سيدي براني في مصر، وإنشاء مرافق في بوساسو في بونتلاند أو كيسمايو على الساحل الصومالي، كلها أمثلة على استراتيجية مرنة ولكنها موجهة نحو المهمة؛ وهو نموذج يسمح، على عكس القواعد الدائمة الكلاسيكية، بالتوسع السريع أو الحد من الوجود العسكري.
لجأت الإمارات العربية المتحدة أيضًا إلى التعاون في مجال الصناعات الدفاعية ومبيعات الأسلحة كوسيلة لتوطيد التحالفات: ومن الأمثلة على ذلك بيع طرادات بطول 71 مترًا للبحرية الأنغولية، وتسليم مركبات مدرعة لجمهورية الكونغو الديمقراطية للدفاع عن مدينة غوما، وبيع مركبات مدرعة خفيفة للسنغال، وإنشاء خط إنتاج مشترك للمركبات المدرعة في أوغندا، لا تقتصر هذه الصفقات على زيادة المنافع الاقتصادية فحسب، بل تزيد أيضًا من اعتماد الحكومات المضيفة على الإمارات العربية المتحدة من منظور أمني.
يمكن تلخيص أهم مجالات مشاركة الإمارات العربية المتحدة في أربعة محاور: الموانئ والخدمات اللوجستية البحرية، والتدريب العسكري وبناء القدرات، والتعاون في مجال الصناعات الدفاعية، والمشاركة السرية في النزاعات الإقليمية.
في الصومال، تشارك الإمارات العربية المتحدة في تدريب القوات الحكومية، ونفذت أول ضربة جوية لها بطائرات بدون طيار ضد مواقع حركة الشباب في منطقة جلجدود. أما في السودان، فتؤكد تقارير الأمم المتحدة أن قاعدة أم درمان في تشاد أصبحت قناة للدعم اللوجستي لقوات "الدعم السريع"، في ليبيا وإثيوبيا، كان دور الإمارات العربية المتحدة في التوازن العسكري على الأرض جليًا.
تتمثل أساليب وأدوات النفوذ الإماراتية في مزيج من القوة الناعمة الاقتصادية والقوة الصلبة الأمنية، والاستثمارات الضخمة في مشاريع البنية التحتية، والقروض والمساعدات المالية، والتدريب العسكري، ومبيعات الأسلحة، وفي أوقات الأزمات، الدعم اللوجستي المباشر ودعم الطائرات المسيرة للحلفاء المحليين، وقد مكّن هذا المزيج الإمارات العربية المتحدة من إحداث تأثير حقيقي على معادلات الوضع الميداني دون تقبّل التكلفة السياسية لتدخل عسكري علني واسع النطاق.
ولهذا اللاعب الجديد تأثير مزدوج على النظام الجيوسياسي الأفريقي. فمن جهة، ساهمت الإمارات العربية المتحدة، من خلال توفير الموارد المالية والقدرات التدريبية للدول التي تواجه تهديدات واسعة النطاق من الإرهاب والقرصنة، في زيادة قدرة الحكومات القريبة منها على الحفاظ على الأمن، ومن جهة أخرى، أدى هذا النمط نفسه إلى جعل تنافس القوى في أفريقيا أكثر تعددية الأقطاب، واليوم، إلى جانب فرنسا والولايات المتحدة والصين وروسيا، دخل لاعب صغير ولكنه ثري الساحة، متحديًا قواعد النفوذ التقليدية، قد تؤدي هذه المنافسة إلى مزيد من عدم الاستقرار، إذ تُدفع الدول الأضعف إلى تحالفات مؤقتة وعسكرة الفضاء الخارجي سعيًا وراء الدعم الخارجي.
في هذا السياق، يُمكن فهم رد فعل الجزائر المتشنج بشكل أفضل، فما يبدو وكأنه حرب إعلامية هو في جوهره انعكاس للخوف من تحول في ميزان القوى حول الجزائر؛ انتقال من نظام كانت فيه القوى التقليدية أو اللاعبون المحليون الكبار حاسمين، إلى نظام تلعب فيه دول مثل الإمارات، بشبكة من الموانئ والقواعد والاتفاقيات الأمنية، دورًا حاسمًا.
في الختام، يُمكن القول إن الإمارات دخلت في تحول استراتيجي جذري؛ تغييرٌ بوادره واضحة للعيان، فالبلد الذي كان معروفًا سابقًا بثرواته النفطية وأبراجه ومراكزه التجارية، في طريقه الآن إلى أن يصبح فاعلًا إمبرياليًا جديدًا؛ مُعيدًا إنتاج نفس الصيغة القديمة للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر: أولًا، خلق المصالح الاقتصادية، ثم السيطرة الكاملة عليها، وأخيرًا، حمايتها بقوة السلاح والحراب، مهما كلف الأمر.
