الوقت - إن روح التجارة العتيقة تبعث من مرقدها في المنطقة، ولكن في عالم جديد متغاير؛ فهذه الرقعة الجغرافية التي طالما ارتبط اسمها بطلاسم الأمن والسياسة، باتت اليوم تشهد -إلى جانب مخاضاتها السياسية والجيوسياسية- تلاقحاً تجارياً واعداً، وقد تجلى هذا التعاون الأمني والتجاري في أبهى صوره خلال الزيارة الأخيرة التي أجراها “هاكان فيدان”، وزير الخارجية التركي، إلى إيران؛ زيارة نُقشت فيها قضايا البلدين على صفيح المصالح المشتركة، سعياً لاقتناص المنافع المتبادلة في هذين المضمارين.
من دمشق إلى تل أبيب
تتشابك خيوط المصالح بين أنقرة وطهران لتنسج رداءً من التعاون، سواء في دمشق أو في فلسطين المحتلة:
التعاون لإرساء الاستقرار في سوريا
أكد وزيرا خارجية البلدين في لقائهما بطهران على ضرورة استتباب الأمن في سوريا، وقد شدّد “عباس عراقجي”، وزير الخارجية الإيراني، في حديثه مع نظيره التركي، على أن الهدوء والاستقرار في سوريا مرهونان بحفظ وحدة ترابها وصون سيادتها، وأن الخطر الداهم الذي يتهدد أمنها إنما يتأتى من الكيان الصهيوني واحتلاله البغيض، ولا يخفى أن العربدة الصهيونية الأخيرة في سوريا قد أثارت قلق أنقرة على مصير زمرة الجولاني -حليفتها الأهم- فاستشعرت الخطر، ولم يكن مستبعداً أن تلجأ تركيا إلى طهران تبتغي العون في إرساء الاستقرار السوري، ويرى بعض المحللين أن الوزير التركي جاء يطلب تعريفاً جديداً للعلاقات مع إيران في ملف الأمن السوري، طمعاً في كسب ود طهران لضمان الاستقرار.
لقد كابدت تركيا، قبيل تهاوي سلطة الأسد، معضلتين كؤودين في الملف السوري: الأكراد وعودة اللاجئين، ولئن كان صعود المسلحين الموالين لأنقرة في دمشق قد أحيى آمال أردوغان بتحقيق مآرب بلاده، إلا أن حصاد عام من حكم الجولاني كان هشيماً تذروه الرياح؛ إذ فشل في بسط الاستقرار، بل زادت الفوضى واشتعل فتيل النزاعات، وباتت وحدة الأراضي السورية حلماً بعيد المنال، هذا الواقع أرّق مضاجع الأتراك، ولا سيما مع تزايد عبث الأصابع الصهيونية في المشهد.
وفي هذا السياق، صرح وزير الخارجية الإيراني في مؤتمره الصحفي مع فيدان بأنه يجب على دول المنطقة أن تقيم سداً منيعاً في وجه أطماع الكيان الصهيوني وتوسعاته في سوريا ولبنان.
عدو مشترك في تل أبيب
وما لا يغيب عن الأذهان أن تمادي الكيان الصهيوني في عدوانه، الذي تطاير شرره ليطال قطر -حليفة تركيا الوثيقة- قد أقض مضاجع أنقرة، وبات من نافلة القول إن تركيا وإيران تقفان في خندق واحد ضد عدو مشترك اسمه "إسرائيل"، ما يحتّم تقارب العاصمتين لمقارعة هذا الخطر، وقد صرح فيدان في طهران بأن كلا البلدين يرى في "إسرائيل" “التهديد الأعظم لاستقرار الشرق الأوسط”.
كما أكد الوزير التركي وقوف بلاده إلى جانب طهران في مفاوضاتها النووية، مطالباً برفع العقوبات الجائرة، ومن زاوية أخرى، ضاعفت التحولات الجيوسياسية الكبرى من وزن العلاقات بين طهران وأنقرة، فمع سير النظام العالمي نحو تعدد الأقطاب، يسعى البلدان لتثبيت دورهما في الهندسة الأمنية الناشئة، واضعين نصب أعينهما عدوهما المشترك.
وفي سياق متصل، تكتسب الزيارة المتزامنة لنائب وزير الخارجية السعودي إلى طهران دلالةً بالغةً؛ فرغم صمت المسؤولين عن الربط بين الزيارتين، إلا أنها تشي برسائل مبطنة مفادها بأن القوى الإقليمية الثلاث قد اجتمعت كلمتها حول مائدة القلق من التهديدات الجيوسياسية التي يثيرها الكيان الصهيوني، وحرصاً على الأمن الإقليمي.
شريان حديدي يربط الأوصال
أشار الوزير عباس عراقجي، عقب مباحثاته مع نظيره التركي، إلى آفاق التعاون السككي بين البلدين، وتناقلت وسائل الإعلام مقترحاً لربط إيران عبر مسار شمالي يمتد من “مرند” إلى “تششمه ثريا”، ليعبر الحدود نحو “قارص” ومنها يلتحق بالخط التركي الشمالي وصولاً إلى أوروبا، يرمي هذا المسار إلى غايتين: استكمال المحور الشرقي-الغربي لتركيا، ومنح إيران ممراً استراتيجياً يربط شرقها بغربها، وقد رأت شركة هندية متخصصة في النقل السككي أن هذا الخط الجديد يمثّل جهداً مشتركاً ذا أبعاد تاريخية، وبوابةً استراتيجيةً بين عالمين.
وتشير التقارير إلى أن هذا الخط سيمتد لقرابة مائتي كيلومتر، بتكلفة تقدر بمليار وستمائة مليون دولار، وفترة إنجاز لا تتجاوز بضع سنين، وقد أشاد الوزيران بأهمية هذا الوصل الجديد؛ إذ إن الربط الحالي يعاني من الهزال، حيث ينقطع المسار عند بحيرة “وان”، لتضطر القطارات إلى ركوب العبارات، فضلاً عن قدم المسار الجنوبي التركي وبطئه، في حين تولي أنقرة وجهها شطر تطوير خطها الشمالي.
كنوز التجارة الكامنة
لقد غُض الطرف طويلاً عن الطاقات التجارية الجبارة الكامنة في العلاقات التركية الإيرانية، غير أن السفير الإيراني في أنقرة، محمد حسن حبيب الله زاده، رسم صورةً جليةً لنموٍ مضطرد، مشيراً إلى قفزة هائلة في التبادل التجاري بلغت شأوها بزيادة 65% في العام المنصرم، ليصل حجم التبادل إلى قرابة 19.4 مليار دولار، وهو برهان ساطع على ضرورة استدامة التعاون الجيوسياسي بين العاصمتين.
وحسب السفير، فقد استنفرت طهران وأنقرة قواهما لتعزيز الروابط الاقتصادية، حيث تعمل شبكة من ثلاث عشرة لجنة فنية مشتركة كخلية نحل دؤوبة لتنظيم التعاون في شتى المناحي؛ من النقل والطاقة إلى الجمارك والصحة، وتعد “اللجنة الاقتصادية المشتركة” من أنشط الآليات الدبلوماسية، حيث تتابع تنفيذ اتفاقات واسعة النطاق تشمل المصارف والاستثمار والسياحة.
الشراكة في مجال الطاقة
يرى الخبراء في علاقات الطاقة بين الجارتين مزيجاً من التفاعل المستدام والفرص السانحة، إذ تعد إيران معيناً لا ينضب للطاقة بالنسبة لتركيا، ومن المنظور الإيراني، لا تُعد تركيا منافساً، بل شريكاً استراتيجياً يعزز التعاون معه أمن الطاقة ومكانة البلدين، وقد أبدى الوزير عراقجي في طهران استعداد بلاده لتجديد عقد الغاز مع تركيا، وتوسيع رقعة التعاون في هذا المضمار، مؤكداً في مؤتمره الصحفي مع فيدان: “إن إيران مورد موثوق للطاقة بالنسبة لتركيا، ونحن على أهبة الاستعداد لتمديد العقد وتنمية الشراكة”.
ووفقاً للدبلوماسي الإيراني الرفيع، يمتلك البلدان مقومات هائلة للتعاون، ولا سيما في التجارة والاقتصاد، ما يستوجب ردم الهوة وإزالة العوائق، والجدير بالذكر أن العقد الحالي لتوريد عشرة مليارات متر مكعب من الغاز الإيراني سنوياً سيصل إلى نهايته في نوفمبر 2026، والعاصمتان تعكفان حالياً على صياغة العقد الجديد الذي سيخلّفه.
