الوقت- يغوص وثائقي “ملفات بيبي” في دجى السجل السياسي لبنيامين نتنياهو، مسلطاً الضوء الكاشف على واحدة من أجرأ الدعاوى التي سيقت في حق هذا السياسي الذي ولغ في الدماء، وصبغ القرن الحادي والعشرين بلون الفجيعة.
يقوم العمود الفقري لهذا العمل السينمائي على حجة دامغة، مفادها بأن استراتيجيات البطش والعدوان التي انتهجها رئيس وزراء الكيان في حرب غزة الضروس، لم تكن سوى انعكاس لرغبة جامحة في الذات، تبتغي الفرار من مقصلة العدالة والنجاة من ملاحقات قضايا الفساد التي تلاحقه كظله.
ومن خلال النفاذ الحصري إلى أرشيف نادر، يميط الوثائقي اللثام عن خبايا الحياة السياسية والعائلية لنتنياهو، كاشفاً المستور عما كان طي الكتمان، ولعل من أبرز المحاور التي تناولها العمل، ذلك الدور المفصلي الذي لعبه “يوني نتنياهو”، شقيق بنيامين، في تعبيد طريق السلطة أمامه؛ إذ كان مقتل “يوني” في عملية “عنتيبي” الشهيرة عام 1976، بمثابة الرافعة التي قذفت ببنيامين إلى بؤرة الضوء في المشهد السياسي الإسرائيلي، وهو حدث مفصلي ألهم السينما العالمية، فكانت أفلام من قبيل “غارة على عنتيبي” (1977).
بيد أن ذروة الإثارة وتجلي الحقائق تكمن في تلك التسجيلات المسربة من غرف التحقيق، حيث يظهر نتنياهو ورهطه في مواجهة صريحة مع المحققين، إن هذه الأصوات والصور التي تخرج للنور لأول مرة، تفتح نافذةً غير مسبوقة تطل على دهاليز إدارة السلطة، وتكشف كيف يراوغ هذا الرجل في مواجهة تهم ثقال.
تسجيلات نتنياهو… الزلزال الذي هزّ العروش
لقد غدا وثائقي “ملفات بيبي”، الذي واجه عقبات جمة وتأخيرات متعمدة قبل أن يرى النور، واحداً من أكثر الأعمال ضجيجاً وإثارةً للجدل في السنوات الماضية، إنه وثيقة إدانة صارخة، تتناول بجرأة لا نظير لها تهم الفساد المالي والسياسي التي تلتف حول عنق نتنياهو وأسرته كالأفعى.
ويقف خلف هذا الصرح الوثائقي نخبة من عمالقة الصناعة؛ فقد تولى إنتاجه “أليكس غيبني”، حائز الأوسكار وصاحب البصمة في أعمال هزّت الضمير العالمي، وأخرجته “أليكسيس بلوم”، المبدعة التي ترشحت لجوائز “إيمي” وصاغت قصة “ويكيليكس”، وقد قوبل الفيلم في مهرجان “تورنتو” بوابل من التصفيق وثناء النقاد.
من “ويكيليكس” إلى قصر الحكم: رحلة في عقل واشٍ
عادت المخرجة “بلوم”، التي برعت في سبر أغوار الشخصيات المعقدة، لتثبت علو كعبها في هذا المضمار، ويرى الخبراء أن ظفرها بتلك الأشرطة السرية للتحقيقات، والتي تمثل القلب النابض للفيلم، يعد فتحاً إعلامياً مبيناً وانتصاراً لرسالة الحقيقة.
مؤامرة الصمت: حين تخرس المنابر الأمريكية
على الرغم من الآمال العراض التي عقدها “غيبني” لعرض الفيلم في الصالات الأمريكية، إلا أن تلك الأماني تبخرت كسراب، فقد وئد الفيلم في مهده، واقتصر عرضه على نطاق ضيق في كاليفورنيا ونيويورك بلا أي ضجيج دعائي، وازداد المشهد غرابةً حينما لاذت كبرى وسائل الإعلام الأمريكية بالصمت المطبق، متجاهلةً هذا الحدث الجلل، وقد لخص “غيبني” هذه المأساة بعبارة قاطعة كالسيف: “لن تجد وسيلة إعلام رئيسية تجرؤ على تغطية هذا الفيلم في أمريكا”.
سقوط من عين الأوسكار: إقصاء يثير الريبة
ورغم كل المتاريس والموانع، شق “ملفات بيبي” طريقه ليكون ضمن الصفوة في القائمة الأولية للأوسكار، إلا أن يد الخفاء عبثت في اللحظات الأخيرة، فحُجب عنه الترشيح النهائي في خطوة لا تخلو من شبهة.
معركة غير متكافئة: قمع في الداخل واحتفاء في الخارج
في الأرض المحتلة، سعى نتنياهو جاهداً لوأد الفيلم ومصادرة حقه في الوجود، ونجح في منع عرضه هناك، بينما شرعت أوروبا أبوابها، وبالأخص بريطانيا، لهذا العمل الذي أحدث دوياً في الرأي العام وهزّ القناعات الراسخة.
كلمة السر: لماذا ترتجف واشنطن؟
تطلق المخرجة “أليكسيس بلوم” تصريحاً يحمل في طياته دلالات عميقة، واصفةً الموقف الرسمي الأمريكي بكلمة واحدة تكررت على لسانها: “القلق”، إن اختيار هذه المفردة يشي بأن ما يحتويه الفيلم من حقائق دامغة قد أصاب صناع القرار في واشنطن بالذعر، وفضح المستور من العلاقات الشائكة والمصالح المشبوهة.
إماطة اللثام عن الوجه الحقيقي: الرعب يمزّق قناع الهيبة البالي
ما إن تنقضي دقائق معدودات من المشاهدة، حتى ينجلي سبب الصخب الذي أحدثه “ملفات بيبي”، يطل بنيامين نتنياهو ببسمته المعهودة المشوبة بالوعيد على الشاشة، غير أن شروخاً غائرةً تلوح بوضوح في إيماءاته وقسمات وجهه، ثمة قلق ملموس يطغى على سكونه المصطنع، وردود أفعال تطفح بالاضطراب، فلا أثر لتلك الثقة الزائفة التي يتبختر بها في ميادين السياسة، إنه يعجز عن مواراة ضعفه البادي للعيان؛ خوف صامت ولكنه عميق من خطر محدق يقرعه بلا هوادة، حتى يسقط القناع عن محياه في نهاية المطاف.
من وجه السفاك إلى “فأر مذعور”: مفارقة صدمت العالم
تلك صورة لنتنياهو لم يعهدها العالم من قبل. صورة تقف على طرف نقيض من هيئة ذلك الشخص المتغطرس المصمم الذي شاهده الناس يطل من وراء المنابر، ذلك الذي يلقب نفسه “جندي القرن الحادي والعشرين”، يضحى الآن خلف طاولة التحقيق أشبه ما يكون بـ “فأر مذعور”.
الكنز المسرب: النواة الملتهبة لقنبلة الفضائح
تكمن النواة المركزية المتفجرة لهذا العمل الوثائقي في تلك المشاهد الحصرية لتحقيقات الشرطة، التي لا تظهر نتنياهو فحسب، بل تشمل زوجته “سارة” ونجله الأكبر “يائير” صاحب النزعة اليمينية المتطرفة، وهم يمثلون أمام المحقق، وتمتد دائرة الاتهام لتطال وجوهاً أخرى ذات نفوذ وسطوة:
1- “آرنون ميلشن”، الملياردير والمنتج الهوليوودي واسع النفوذ.
2- “ماري أديلسون”، المليارديرة الإسرائيلية الأمريكية.
3- “شاؤول ألوفيتش”، عملاق قطاع الاتصالات في "إسرائيل".
4- “نير حيفتس”، المتحدث السابق باسم نتنياهو.
الصفقة التاريخية: كيف غدت الأشرطة السرية سلاحاً بتّاراً؟
ينبع هذا الكشف من آلاف الساعات المسجلة للتحقيقات ما بين عامي 2016 و2018، والتي تسربت في ربيع 2023 لتستقر بين يدي “أليكس غيبني”، وقد أدرك غيبني على الفور القيمة التاريخية لهذه الوثائق، فقصد “أليكسيس بلوم” مقترحاً أن تكون هذه الصور حجر الزاوية لفيلم وثائقي طويل.
وفي هذا الصدد تصرح بلوم لموقع “ميدل إيست آي” قائلةً: “أيقنت أنني لن أحظى قط بمقابلة صريحة وجهاً لوجه مع بنيامين نتنياهو، فكانت هذه [الأشرطة] أقرب وسيلة ممكنة في ظل هذه الظروف للظفر بحوار صادق معه”.
ما وراء الكشف.. براعة تحويل الوثائق المبعثرة إلى مأساة حديثة
لعل ما يعرضه وثائقي “ملفات بيبي” ليس جديداً كل الجدة للمتابعين لقضايا الفساد، بيد أن أَلَق هذا العمل يكمن في المونتاج الحاذق والسرد الذكي الذي نسجته “أليكسيس بلوم”، إذ تحيل تلك الصور المتناثرة من التحقيقات إلى “وثيقة مدوية” ترسم سرديةً مروعةً عن السلطة المنفلتة من عقالها، والفساد الأخلاقي المتجذر، والعداء للمجتمع، إن مشاهدة هذا الفيلم هي مجابهة مباشرة مع أحلك زوايا السلطة في عالمنا المعاصر، بتفاصيل لا تقيم وزناً ولا أدنى محاباة لأشخاصها.
من حرب غزة إلى قوارير شمبانيا سارة نتنياهو؛ سلسلة من الخبايا
يستهل الوثائقي مشاهده بلقطات من حرب غزة؛ تلك الحرب التي يصورها صناع العمل - تلميحاً قوياً - كنتاج لحسابات شخصية ومآرب ذاتية لبنيامين نتنياهو بغية النجاة من ورطته القضائية. ثم توجّه الكاميرا شطر قلب الفساد المالي، متناولةً الهدايا الباهظة من قبيل الشمبانيا والسيجار، والتي أغدقها شخصيات مثل “آرنون ميلشن” و"ماري أديلسون" على الدائرة المقربة لرئيس الوزراء، تمهيداً لنيل الحظوة والمآرب الخاصة.
صفقة هوليوود والقدس؛ لعبة السلطة مقابل التأشيرة والإعفاء الضريبي
ومن أخطر التهم المثارة تلك المتعلقة بآرنون ميلشن، الملياردير والمنتج ذي الصيت الذائع ومؤسس شركة “ريجنسي إنتربرايزس”، يكشف الفيلم كيف استغل نتنياهو نفوذه السياسي لإحياء تأشيرة ميلشن الأمريكية - التي كانت قد ألغيت سابقاً، وفي مقابل هذا الصنيع، لم يكتف ميلشن بتقدير عائلة نتنياهو عبر هدايا تقدّر بالملايين، بل ضغط على رئيس الوزراء لإرغام وزير المالية الإسرائيلي على تطويع القوانين لصالح ميلشن، وجلب “إعفاءات ضريبية ضخمة” له.
شبكة الفساد العائلي.. من استجداء الزوجة للهدايا إلى الهيمنة الخفية على الإعلام
تكشف “بلوم” رويداً رويداً أن شبكة الفساد أوسع بكثير من مجرد تلقي بعض العطايا، فاستناداً لشهادة “هداس كلاين”، المساعدة السابقة لميلشن، كانت “سارة نتنياهو”، زوجة رئيس الوزراء، تعاني من مشكلات في معاقرة الكحول، وقد “طلبت” شخصياً هدايا تناهز قيمتها 280 ألف دولار. ولعل الأهم من ذلك كله، ملف “شاؤول ألوفيتش”، إمبراطور الاتصالات في "إسرائيل"، يبيّن الفيلم كيف انتشله نتنياهو من وهدة الإفلاس، وفي المقابل، بسطت عائلة نتنياهو سيطرتها الخفية على أحد أكثر المنابر الإعلامية رواجاً في "إسرائيل"، “والا نيوز”.
هل يكون نجل نتنياهو الملك القادم لديمقراطية الکيان الزائفة؟
وقد بلغ هذا التحكم حداً أفضى إلى طرد الصحفيين، وتحريف الخط التحريري لنشر تقارير دعائية مفصلة على مقاس بنيامين ونجله “يائير”؛ وهي الخطوة التالية التي كانت تهدف، بحسب “عوزي بيلر”، صديق نتنياهو القديم، إلى تهيئة يائير لخلافة أبيه.
قناع “النسيان”؛ استراتيجية السفاك أمام الشرطة
وتبدي مخرجة الوثائقي “أليكسيس بلوم” دهشتها من صفاقة عائلة نتنياهو وتطاولهم السافر في مواجهة المحققين. ففي مشهد مفصلي من “ملفات بيبي”، تشير “سارة نتنياهو” بازدراء إلى أدلة الشرطة قائلةً: “أدلتكم محض هراء”.
وفي المقابل، يتشبث رئيس وزراء "إسرائيل" طوال الفيلم باستراتيجية ثابتة، مدعياً مراراً وتكراراً أنه “لا يذكر شيئاً”، وفي موضع آخر، تتم الإشارة إلى زوجة رئيس وزراء الكيان، التي تضطلع بدور محوري في الفساد المستشري والابتزاز، وفي استرجاع سينمائي مشوق (فلاش باك)، تُطرح قضية خيانة نتنياهو، وكيف تحول من بعد تلك الواقعة إلى خادم مطيع لزوجته، خشية أن تتشوّه صورته أمام الرأي العام الإسرائيلي.
الكذبة التي فضحتها الوثيقة؛ حين تتعطل الذاكرة الفذة للسياسي
وتقول بلوم بتهكم لاذع يطال شهرة نتنياهو: “طالما قيل لي إنه يمتلك ذاكرةً خارقةً، ولكنه في مواقف معينة يدعي أنه لا يذكر شيئاً، في حين أن أي إنسان سوي يذكره”. وتبلغ هذه المفارقة ذروتها في قضية “آرنون نوني موزيس”، رئيس تحرير إحدى الصحف الإسرائيلية، إذ تعرض الشرطة تسجيلاً سرياً أجراه نتنياهو لحوار خاص، في حين كان قد أنكر إنكاراً قاطعاً قيامه بذلك، وتتساءل بلوم بذهول: “لست أدري كيف للمرء أن ينسى أنه سجّل لغيره خلسةً، والهاتف قابع في جيبه”.
اللغز السيكولوجي لنتانياهو: أعبقري مفتون بذاته أم كذوب يتدثر برداء المصلحة؟
يبلغ مخرج هذا الأثر الوثائقي، في تحليله لهذا الطوفان من الاكاذيب، إلى تساؤل جوهري محوري: "أكان يدرك أنه يكذب؟ أم كان يتوهم أن الغاية تسوغ الوسيلة، وأن أفعاله إنما كانت لأجل خير إسرائيل الأعظم؟" وجواب بلوم على هذا التساؤل هو مفتاح استجلاء شخصية نتنياهو، إذ يقول: "نتنياهو يؤمن حقاً بأنه أذكى من في "اسرائيل" قاطبةً وأقدرهم على الاطلاق".
وتبلغ هذه النرجسية المتعاظمة مبلغاً عظيماً، حتى أن كثيراً من المقربين منه سابقاً، من رئيس ديوانه الاسبق إلى رؤساء جهاز الشاباك السابقين، قد أكدوا، حسب ما يروي بلوم، أن اللفظة التي يداوم نتانياهو على إطلاقها لوصف من حوله هي "الأقزام"، ففي تصوره للعالم، هو وحده "العبقري" الفذ، وسائر الخلق "أقزام" ينتظرون من يقودهم.
اللعب على الحبلين في واشنطن: من طفولة فيلادلفيا الى الخطاب التحريضي في الكونغرس
يتناول الفيلم الوثائقي "ملفات بيبي" مراراً وتكراراً تلك العلاقة العميقة المتشعبة الاوصال بين نتنياهو وأمريكا؛ ذلك البلد الذي قضى فيه شطراً من طفولته وحقبة دراسته الجامعية في معهد ماساتشوستس للتقنية ببوسطن، ثم اكتسب فيه خبرته الدبلوماسية في أروقة الامم المتحدة، وقد ظل نتانياهو يستثمر هذه الرابطة رأسمالاً سياسياً يرسم به صورته أمام جمهوره الداخلي بوصفه قائد دفة العلاقة مع الحليف الأول لـ "إسرائيل".
ويعرض الفيلم مشهداً مزلزلاً من خطابه التحريضي المتعمد في الكونغرس الامريكي عام 2015، ذلك الخطاب الذي وصفه "نمرود نوفيك"، المستشار الاقدم السابق لـ"شمعون بيريز"، بأنه "أبلغ صياغة لمجموعة من الشعارات الجوفاء"، وهذا المشهد يستحضر في الاذهان تلك الحصانة المطلقة التي أسبغتها واشنطن على هذا الزعيم الاسرائيلي دون قيد أو شرط.
أولوية واشنطن: السلاح والغطاء السياسي لا المساءلة
تقول "الكسيس بلوم" في تحليلها لهذه العلاقة التامة الاركان: "إن إرسال السلاح لاسرائيل وتوفير الغطاء السياسي لها، لهو بلا ريب أهم بكثير من أن يجري ‘بيبي’ اتصالاً مع ‘كيري’." وهذه العبارة تكشف بجلاء عن الموقف الاستراتيجي الامريكي: فالمصالح الامنية الكبرى تعلو على إي إلزام بمحاسبة قادة "اسرائيل".
علاقة استثنائية بلا مساءلة: صمت البيت الابيض الدال
وإن كانت العلاقة الامريكية الاسرائيلية تطرح في ثنايا الفيلم الوثائقي، الا انها لا تغدو محوراً رئيسياً له، وتأمل بلوم أن يخصص يوماً ما فيلم مستقل لهذه القضية الشائكة.
ويتصدى أحد المحاورين في الفيلم لهذه العلاقة بصراحة متناهية: "أتعجز أمريكا عن معرفة كيف تحاسب نتنياهو؟ لم تتخذ إدارتا بايدن وترامب حتى الآن أي إجراء لمعاقبة ‘بيبي’ على أكاذيبه، قد ينتقدونه خلف الابواب الموصدة، لكن لا تبعة فعلية تترتب على ذلك."
وهذه المقولة تصيب كبد النقد في مقتل: إنها الصفقة غير المكتوبة بين واشنطن واورشليم، تلك الصفقة التي حلت فيها المساندة غير المشروطة محل المسؤولية والمحاسبة.
رهائن حربين: رواية تحمل نتانياهو وزر معاناة الفلسطينيين والاسرائيليين
يتناول الفيلم الوثائقي في قسمه الختامي المثير للجدل حادثة السابع من اكتوبر وحرب غزة. "غيلي شوارتز"، إحدى الناجيات من الهجوم على الكيبوتس، تعبر عن صوت كثير من الضحايا حين تحمل نتانياهو مسؤولية "المعاناة المزدوجة": "علي الآن أن أتحمل وأن أرى جيراني في غزة يقتلون أيضاً." ويبلغ هذا الشعور حداً يجعل شوارتز ترفض أن تقع عيناها على وجه رئيس الوزراء، فيما تخشى عائلات الرهائن من الجهر بمعارضته خوفاً من قطع المساعدات الحكومية عنهم، والتحليل الصريح الذي يتسرب من بين ثنايا هذا السخط هو: "إن من أخذهم رهائن هو رئيس وزراء الكيان، لا حماس."
استراتيجية "تغذية حماس" من أجل البقاء السياسي
يطرح هذا الفيلم، مستنداً إلى تحليلات الخبراء، اتهاماً بالغ الخطورة: إن نتنياهو لم يكن خالق حماس، بل كان راعيها المالي والاستراتيجي، يقول "نمرود نوفيك"، المستشار السابق لشمعون بيريز، في الفيلم:"الراي العام الاسرائيلي يعرف نتانياهو بوصفه من غذّى حماس، ويحملونه المسؤولية عن السابع من اكتوبر." وهذا الجزء المميز من الفيلم الوثائقي، المقرون باقتباسات من رفقاء رئيس وزراء الكيان السياسيين، يشكّل مادةً دسمةً للأطياف السياسية الداخلية التي تصف الهجوم الاسرائيلي على إيران بأنه نتيجة لدعم حماس وسائر فصائل المقاومة. ويطرح هذا الفيلم الوثائقي بصراحة أن رئيس وزراء الكيان لم تكن لديه أي خطة لإنهاء حرب غزة، أو لاستعادة الرهائن، أو لتغيير ديناميكيات المنطقة. وإنما زاد الطين بلةً.
اللعب بالنار: لماذا لم يقطع نتنياهو قط تدفق الأموال إلى حماس؟
يؤكد الخبراء الذين حاورتهم بلوم بقاطعية أن نتنياهو تعمّد الإحجام عن كبح جماح حماس. ويحتجون بأن تهديد جماعة جهادية كان أداةً حيويةً لتسويغ استمراره في الحكم، وتصف بلوم هذه الاستراتيجية بأنها "قرار بالغ السوء" لكنه محسوب، وتوضح: "اسرائيل تسيطر على كل الاموال التي تدخل الضفة الغربية وغزة، وفي عهد نتنياهو، تضاعفت الاموال المتدفقة الى حماس أکثر فأکثر، لأن هذا الوضع كان يصبّ في مصلحته." وهذه هي عين استراتيجية "فرق تسد": فحين تكون حماس قويةً، يستطيع نتنياهو أن يحتج بأنه لا مناص من النهج المتشدد ورفض التفاوض.
المأزق المتعمد: حرب لا تنتهي ولا تبتغي حلاً
تفضي الحصيلة النهائية لهذه الاستراتيجية إلى مأزق محكم يكشف عنه الفيلم الوثائقي بجلاء: فرئيس وزراء الكيان لا يملك أي خطة لوضع أوزار الحرب، أو لاسترداد الرهائن فعلياً، أو لتبديل ديناميكيات المنطقة، إن حربه في غزة، التي يصورها الفيلم الوثائقي بوصفها لا انسانية وعامل زعزعة للاستقرار في الشرق الاوسط، إنما تمضي قدماً بغية تأزيم الاوضاع واستدامة أزمةٍ قد ارتهن بقاؤه ببقائها، وهذا الموقف يقف على طرفي نقيض مع الخطاب التبسيطي الساذج الذي يتردد في بعض الأوساط الامريكية المؤثرة، ذلك الخطاب الذي يصف أي انتقاد لـ "اسرائيل" بالانحياز إلى حماس. بيد أن الفيلم الوثائقي يبرهن على أن الواقع أعمق غوراً وأكثر تشعباً وتعقيداً.
وقد قطع وثائقي "ملفات بيبي" منذ عرضه الاول في مهرجان تورنتو، درباً وعراً محفوفاً بالعقبات. فقد ظل هذا الفيلم حتى اللحظات الأخيرة يخضع للتحديث وإعادة المونتاج لمواكبة الأحداث المستجدة، غير انه رغم نفوذ "اليكس غيبني" ومكانته الرفيعة في صناعة السينما، لم يستطع قط أن يحظى بمنزلة مماثلة لسائر الاعمال المرشحة للجوائز.
تقول اليكسيس بلوم في هذا الشأن: "إن منصات البثّ اليوم لا تبدي ولعاً كبيرًا بالمحتوى السياسي المعقد، الا اذا كان الموضوع شفافاً تماماً وأحادي الجانب. فمثلاً، حقّق فيلم نافالني الوثائقي نجاحاً لأن اللوبي الموالي لروسيا في أمريكا ليس ضخماً أو ذا نفوذ واسع." وتشير الى تجربتها في حفل جوائز الايمي الاخير قائلةً: «فاز فيلم اوكراني بعدة جوائز لكنه لم يجد موزعًا. كما يواجه الفيلم الوثائقي الفلسطيني الاسرائيلي No Other Land المعضلة ذاتها، ومن الطبيعي تماماً أن تنأى خدمات البث بنفسها عن فيلم ينتقد بشدة زعيماً اسرائيلياً ممسكاً بزمام السلطة."
وتمضي بلوم مشيرةً إلى إشكالية التمويل: "كان تدبير الميزانية لهذا الفيلم عسيراً للغاية، لأن المستثمرين كانوا في قلق شديد. لا توجد اي رغبة مؤسسية للتصدي للاسئلة الجوهرية حقاً في عصرنا، وأنا أتوقع أن تزداد الأمور سوءاً مع احتمال عودة ترامب."
وما يثير قلق بلوم أكثر هو ظاهرة الرقابة الذاتية التي تسبق أي إجراء رسمي: "ثمة في امريكا شيء أكثر تسللاً وخفاءً. المسألة في جوهرها مسألة مال؛ إذ لا أحد يريد أن يجلب على نفسه المتاعب. هذا الأمر يثير في نفسي إحباطاً بالغاً وحزناً عميقاً، لكننا مضطرون الى مواصلة العمل بأساليب شعبية تماماً ومن القاعدة إلى القمة. أما عن مستقبل نتنياهو، فلست متفائلةً كثيراً، فرغم أن قادة اسرائيليين سابقين قد زجوا في السجن - بمن فيهم موشيه كتساف في عام 2011 وايهود اولمرت في عام 2015 - إلا أنني لا أتصور أن نتنياهو سيدخل السجن. أراه ينجو من المأزق بطريقة ما، رغم أن الشواهد ضده تبدو وافرةً. لقد استطالت هذه العملية الى حد اعتقد معه أنه سيجد سبيلاً للإفلات من قبضة العدالة. فكلما طال أمد هذه المحاكمة، ازدادت قدرته على التملص من تحمل المسؤولية."
وتتنبأ بلوم في ختام حديثها: "سيذعن نتنياهو إما لتسوية قضائية وإما سيغير المنظومة القانونية. سيفرغ الجهاز القضائي من جوهره. سيزاح المدعي العام - الذي لا يتعاطف معه - وسيجد طريقةً لإعادة هيكلة الجهاز القضائي بما يخدم مصالحه."
خداع الرأي العام: فن مشترك بين قادة "إسرائيل" وأمريكا
إن المقارنة بين دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو تميط اللثام عن أوجه تشابه جديرة بالتأمل. فكلاهما، مستغلاً امتيازات استثنائية وثروة عائلية موروثة، قد نجح في تضليل الملايين بأجنداته النفعية. بيد أن "بلوم"، مخرجة فيلم "ملفات بيبي" الوثائقي، ترى أنه رغم هذا التشابه، ثمة فوارق جوهرية بين وضع "إسرائيل" ووضع أمريكا.
الإضعاف المتعمد للمؤسسات الديمقراطية: مخطط مشترك لطلاب السلطة
إن المقارنة بين حكومة نتنياهو وإدارة ترامب أمر لا مناص منه. فكلاهما وصل الى السلطة عبر صلات عائلية، وكان الدافع الاساسي لكليهما الإفلات من التبعات القانونية لأفعالهما. ومن أشدّ إجراءات رئيس وزراء "اسرائيل" إثارةً للجدل، ذلك الإجراء الذي لم يكن خفياً بل جهاراً نهاراً، مخططه المتعمد لتقويض صلاحيات المحكمة العليا في البلاد. وقد أشعل هذا الاجراء شهوراً من الاحتجاجات الواسعة في أرجاء "اسرائيل" عام 2023.
الأمن: أكذوبة القرن الكبرى لتضليل الشعوب
تقول بلوم في تحليلها: "استطاع نتنياهو خداع الناس لأنه أقنعهم بأنه خير لأمنهم"» وتوضّح: "صوّت الناس له لاعتقادهم بأنه سيحميهم؛ وهو ما أراه ضرباً من الجنون، إذ لم تكن "اسرائيل" يوماً أشدّ خطراً على اليهود مما هي عليه اليوم." وتشير المخرجة بسخرية الى ادعاءات نتنياهو: "يردد دائماً أننا نقاتل على سبع جبهات. حسناً، ما رأيكم ألا تقاتلوا على سبع جبهات؟"
باعة "زيت الأفعى": تشبيه صادم لزعيمين
ترى بلوم أن ترامب ونتنياهو ليسا متطابقين تماماً، بل يشبهان الباعة المتجولين لـ"زيت الأفعى" الذين نجحوا ببراعة في تضليل الرأي العام. وتحلل قائلةً: "بعد السابع من اكتوبر، فقد نتنياهو شعبيته بشكل حاد لأن الناس قالوا: “هذا حدث في عهده”. وهو ليس سيد الأمن."
الهروب الى الأمام: سياسة التغافل المتعمد عن التهديدات الحقيقية
حسب بلوم، فإن مشكلة نتنياهو الرئيسية هي أنه "منغمس الى حد بعيد في رقعة الشطرنج الكبرى: ايران وسوريا وما الى ذلك، حتى نسي الفلسطينيين القابعين خلف بابه مباشرةً." وتؤكد المخرجة: "يهوى أن يتصرف على مستوى تشرشلي وأن يصوّب نظره نحو العدو الاكبر أي إيران. لكن السابع من اكتوبر أراه ما ينبغي له فعلاً أن يواجهه."
التحذير الختامي: مستقبل قاتم بلا حل للقضية الفلسطينية
تحذّر بلوم في الختام قائلةً: "ما لم تتصدى اسرائيل للقضايا البالغة التعقيد والمشحونة عاطفياً والمستمرة التي يضعها الفلسطينيون أمامها، فلن تكون ابداً دولة ديمقراطية ولن تحظى أبداً بالقبول على الصعيد العالمي." وهذا الكلام يرسم صورةً تحذيريةً لمستقبلٍ يهدّد فيه استمرار الوضع الراهن لا أمن "اسرائيل" فحسب، بل شرعيتها الدولية أيضا.
