الوقت – شهدت الأسابيع المنصرمة تصاعداً غير مسبوق في وتيرة التهديدات الصهيونية ضد لبنان، وفي الآن ذاته، أسفرت الغارات الجوية المتعاقبة للكيان الصهيوني على مناطق شتى في جنوب لبنان، عن استشهاد وإصابة عدد من المدنيين وإلحاق أضرار فادحة؛ في مشهد لا يقل هولاً وتأثيراً عن حرب محدودة، وينبئ عن ولوج مرحلة تسعى فيها تل أبيب إلى فرض معادلات جديدة عبر سياسة الضغط العسكري.
في خضم هذا المعترك، يبرز السؤال المحوري: ما الأهداف الحقيقية للكيان الصهيوني من تهديداته بشن حرب أو مباشرة عمليات عسكرية جديدة ضد لبنان؟ ولماذا يفكر ساسة تل أبيب بخوض مجازفة محفوفة بالمخاطر، رغم إنهاك جيشهم بعد حرب غزة المديدة، وإخفاقهم في تحقيق مآرب الحرب الأولية، وأزمة الثقة العميقة بين المجتمع الصهيوني وجيشه وقادته السياسيين؟
وفي الوقت نفسه، لا مناص من الالتفات إلى مسألة جوهرية أخرى: المسلك السياسي لبعض أركان الدولة والحكم في لبنان، الذي أوجد - نتيجة الانصياع لضغوط أمريكا و"إسرائيل"، قصداً أو دون قصد - مناخاً سياسياً في البلاد تفسّره تل أبيب كمؤشر على وهن الجبهة الداخلية اللبنانية، يشمل هذا المناخ الضغط على حزب الله لنزع سلاحه، وإذكاء الخوف المجتمعي من الحرب، وإحداث شرخ في النسيج الوطني وبين المقاومة والجيش؛ وهو وضع يراه الصهاينة ممهداً لظفرهم المحتمل.
الأهداف الرئيسية للكيان الصهيوني من أي حرب محتملة ضد لبنان
1. الضغط لإجبار حزب الله على قبول معادلات جديدة
تعتقد تل أبيب أن الظروف الإقليمية الراهنة قد تتيح فرصةً لفرض قيود جديدة على حزب الله وإرغامه على تراجعات استراتيجية؛ تراجعات تستهدف في جوهرها تقليص قدرة الردع والقوة الهجومية للمقاومة، في الحقيقة، يرى المسؤولون الصهاينة هذه الفترة أنسب أوان لتنفيذ مشاريع طرحت لسنوات في صيغة مطالب وقرارات شبه معلقة، لكنها لم تجد سبيلاً إلى التنفيذ قط.
في هذا المضمار، يتجلى الهدف الرئيسي لتل أبيب في تكبيل القدرات الصاروخية والمسيرات لدى حزب الله، والضغط عليه لقبول مشاريع كدفع قوات المقاومة إلى شمال نهر الليطاني، وتحويل جنوب لبنان إلى منطقة ذات وجود متضائل لقوات حزب الله.
كما يسعى الكيان الصهيوني إلى إنشاء “منطقة عازلة آمنة” في عمق الأراضي اللبنانية؛ منطقة يمكنها - حسب زعم مسؤولي تل أبيب - ضمان أمن المستوطنين في شمال الأراضي المحتلة، وإقامة حاجز جغرافي فعلي أمام قدرات المقاومة غير القابلة للتدمير، هذه الضغوط مجتمعةً تشكّل جزءاً من استراتيجية "إسرائيل" الشاملة لإعادة تعريف توازن القوى على الحدود الشمالية، وفرض نظام أمني يلائم مطامعها على لبنان، ويتوهم الكيان الصهيوني أن التلويح بالحرب أو تنفيذ عملية محدودة، قد يحدث انقلاباً في الموازين.
2. الحيلولة دون تعاظم قدرات حزب الله بعد حرب غزة
عززت سنتان من الحرب المستعرة في غزة، قناعةً لدى "إسرائيل" بأنه إذا كانت المقاومة تحت الحصار والقصف والاحتلال العسكري قادرة على إعادة بناء نفسها في أتون المعارك والحفاظ على دعائم قوتها العسكرية، فإن حزب الله - بظروف أفضل بكثير - قادر على استعادة قوته السابقة وتجاوزها في وقت أقل بكثير مما هو متوقع، وأن تغدو معادلة الردع للأراضي المحتلة أشدّ وطأةً مما كانت عليه قبل حرب غزة.
وتنبئ التقارير حالياً أن حزب الله قد طوّر منظوماته الصاروخية واللوجستية، وعزّز قدراته في مجال المسيرات، وأعاد بناء قواته النخبوية وهيكله القتالي.
هذا الأمر أثار قلقاً عميقاً لدى القادة العسكريين الإسرائيليين، وهم يعتقدون أنهم إذا لم يشعلوا أوار الحرب الآن، فإن تكلفتها في المستقبل ستكون أفدح بكثير.
3. محاولة استعادة الردع المتهاوي
تتأثر مغامرة إضرام حرب جديدة مع لبنان، كسائر مغامرات هذا الكيان في العام الأخير ضد إيران وقطر واليمن، بحالة عامة تتمثل في مساعي إعادة بناء ردع الكيان الذي تداعى - باعتراف المسؤولين الصهاينة أنفسهم - بعد عملية طوفان الأقصى، ولهذا السبب، ينظر إلى مهاجمة “عدو أشدّ بأساً” كحزب الله كوسيلة لإعادة بناء هيبة الجيش، وإثبات التفوق العسكري للكيان على جميع دول المنطقة، واسترضاء الرأي العام داخل الأراضي المحتلة الذي بات يرى مستقبله مهتزاً وغير مطمئن.
4. الهروب من الأزمة الداخلية
يواجه الكيان الصهيوني انشطاراً داخلياً حاداً، وأزمة شرعية، ومظاهرات عارمة، وانهياراً في الثقة العامة، ومع توقف الحرب وقبول وقف إطلاق النار في غزة، عاد الوضع السياسي لنتنياهو تحت ضغط المنتقدين داخل الحكومة وخارجها، فمن جهة حلفائه المتشددين، يتهم بأنه رضخ للضغوط الأمريكية وحال دون التنفيذ الكامل للأهداف المخطط لها لنزع سلاح غزة بالكامل وتدمير حماس واستمرار الوجود العسكري الصهيوني في غزة، ومن جهة المعارضين الخارجيين، يواجه مجدداً اتهامات الفساد والتهرب من تحمل المسؤولية عن أحداث السابع من أكتوبر 2023، وفي هذه الظروف، قد يمثّل إشعال حرب جديدة بالنسبة له “مهرباً” سياسياً، وأداةً ناجعةً - من وجهة نظره - لتوحيد المجتمع الإسرائيلي في مواجهة “تهديد خارجي”.
الاتكاء على الانشقاقات السياسية؛ نظرة "إسرائيل" إلى الأوضاع الداخلية اللبنانية
ترصد تل أبيب بدقة متناهية التطورات الداخلية في لبنان، وتعتقد أن اتساع الهوة بين التيارات المؤيدة للمقاومة والمجموعات المتماهية مع أمريكا، قد ألقى بالبنية السياسية اللبنانية في هاوية انقسام أعمق من أي وقت مضى.
من منظور ساسة الكيان، فإن شطراً من الطبقة السياسية اللبنانية - بدل مجابهة تهديدات الكيان الصهيوني المتصاعدة - يرى في الضغط على حزب الله الحل الأوحد، وهذا النهج بعينه يقدّم صورة بلد واهن، متصدع، ومفتقر إلى التماسك في مواجهة حرب محتملة، تفسّر "إسرائيل" هذه الخلافات كمؤشر صريح على تقويض السند السياسي والاجتماعي للمقاومة داخل لبنان، وتعتقد أن الجبهة الداخلية اللبنانية لن تكون متآزرةً ومتناغمةً في مواجهة تهديد جسيم.
إلى جانب هذا التصور، تقع السياسات الرسمية والعلنية لبعض مؤسسات الدولة اللبنانية - من وجهة نظر الكيان - في إطار أهداف تل أبيب بشكل مريب، فتأكيد بعض المسؤولين اللبنانيين على تقييد دور المقاومة، وإثارة ذعر الناس من نشوب حرب، ومحاولة إلقاء مسؤولية التوترات على كاهل حزب الله، كلها ترسل رسالةً واحدةً إلى تل أبيب: “لبنان ليس متوحداً خلف المقاومة”، لذا، يرى الكيان في هذا الوضع نوعاً من الضوء الأخضر للعمل العسكري، ويتوهم أنه في حال اندلاع الحرب، لن يواجه جبهةً وطنيةً متراصّةً.
في هذا المضمار، فإن تصور الكيان الصهيوني عن وضع الجيش اللبناني قاتم للغاية؛ فالأزمة الاقتصادية، وتقليص الموازنة الدفاعية، والخلافات الداخلية جعلت تل أبيب ترى الجيش اللبناني عاجزاً عن أداء دور فاعل في حرب شاملة، وتعتقد أنها في حال نشوب حرب، ستواجه حزب الله وحده، لا القوة الدفاعية اللبنانية المتكاملة.
مجموع هذه الظروف حوَّل الدور الخاطئ والمکلف لجزء من الدولة اللبنانية، إلى عامل محوري في تيسير العدوان الإسرائيلي المحتمل.
إن المسلك السياسي للتيارات المقربة من أمريكا واستمرار الضغط لنزع سلاح المقاومة في الوقت الذي يتوعد فيه نتنياهو صراحةً بالحرب، يضفي شرعيةً عمليةً على تهديدات تل أبيب ويقوض الموقف الدفاعي للبلد، ومثل هذا المناخ لا يعمّق الانقسام الداخلي فحسب، بل يبعث بأخطر رسالة مغلوطة إلى العدو: وهي أن لبنان يفتقر إلى التماسك الدفاعي وليس متأهباً لمجابهة التهديدات، هذه هي الرسالة المشؤومة التي قد تغري "إسرائيل" بالانخراط في مغامرة عسكرية.
إن استمرار الضغط لنزع سلاح المقاومة في الوقت الذي يتوعد فيه نتنياهو علناً بالحرب، هو هدية سياسية لتل أبيب؛ لأنه يمنح "إسرائيل" وهم أن المقاومة تحت وطأة ضغط داخلي أيضاً.
مواقف حزب الله ومستوى جاهزيته
تكشف مواقف حزب الله خلال الأشهر المنصرمة أن هذه الحركة لا تنحدر نحو الأفول، بل تعد نفسها بجاهزية تامة لمجابهة أي سيناريو عسكري، وأن الرد على أي هجوم سيكون شاملاً، متعدد الأوجه، ومتجاوزاً للحسابات المعهودة، هذه المواقف ليست مجرد ردود فعل على تهديدات "إسرائيل"، بل هي جزء من استراتيجية ردع فاعلة تهدف إلى إظهار الكلفة الباهظة لأي مغامرة عسكرية.
لكن في نهاية المطاف، ليست مسؤولية منع الحرب ملقاةً على عاتق المقاومة وحدها؛ بل ينبغي على الدولة اللبنانية أن تنأى بنفسها عن اللعب في ميدان ترامب ونتنياهو، وأن تتبنى نهجاً وطنياً موحداً صامداً؛ نهجاً يبعث برسالة جلية إلى تل أبيب: “لبنان متآزر ومتأهب للذود عن حياضه”.
