الوقت – منذ عامين، حين أضرم نتنياهو أوار الحرب في غزة، تصوَّر نفسه مخلِّصاً لبني صهيون من وهدة الضياع، وعندما دفع بجحافل جيشه نحو أرض القطاع لإشعال فتيل المعركة، استهلَّ غزوته بترانيم دينية تصدح في أرجاء غزة المكلومة، فقد حمل جنود الاحتلال في مستهل عدوانهم مكبرات صوت ضخمة، تنبعث منها التراتيل اليهودية، ليوحوا لأبناء جلدتهم أن زعيمهم يحمل همومهم في قلبه، وأن نار الحرب قد اشتعلت لخلاصهم من المحنة.
غير أن عامين من ضراوة القتال في ربوع غزة لم تُسفر فقط عن مصرع بعض الأسرى الإسرائيليين تحت وطأة قصف الصهاينة أنفسهم، بل تعدى الأمر ذلك إلى إخفاق نتنياهو الذريع في تخليص بقية الأسرى في الأوان المناسب، واستغرقت عملية فك أسرهم زهاء العامين، فلماذا، حقاً، جرَّ نتنياهو - ذلك الذي لطالما زعم أنه منقذ اليهود - أحوال الصهاينة القاطنين في الأراضي المحتلة إلى هاوية الأزمات المتلاطمة؟ وما هي تجليات هذه الأزمة التي تعصف اليوم بشتى مناحي حياة الصهاينة؟
في دوامة الأزمات المتلاحقة
تعصف بالكيان الصهيوني أزمات متعددة الأوجه، تضرب عمق كيانه:
تصدُّع المؤسسة العسكرية: أماطت القناة 12 في تلفزيون الكيان الصهيوني اللثام عن أزمة غير مسبوقة في بنية القوى البشرية لجيش هذا الكيان، واصفةً إياها بأنها من أشدّ الأزمات وطأةً في تاريخه القريب، فقد استشرت ظاهرة خطيرة بين صفوف الجنود النظاميين، إذ يتوافد الآلاف منهم على مكاتب القيادة طالبين تعجيل موعد تسريحهم، ناكبين عن مواصلة الخدمة؛ وهي ظاهرة استفحلت في جميع مستويات الجيش، وباتت تُشكل - وفقاً للخبراء - تهديداً جسيماً لمستقبل البنية العسكرية للكيان المزعوم.
وعلى الرغم من المساعي الحثيثة للقادة لاحتواء هذا التدهور، حذّر المحللون العسكريون من أن غور الأزمة أعمق بكثير مما تُظهره الأرقام المعلنة، وأنها قد تقوِّض أركان الجيش التنظيمية والعملياتية في السنوات المقبلة إذا استمرت على وتيرتها الحالية.
انهيار الاقتصاد: كشفت صحيفة “كاليست” العبرية عن تراجع حاد يشهده سوق العمل في الكيان الصهيوني، في ظل الركود الاقتصادي المتفاقم منذ اندلاع الحرب، وأكدت الصحيفة أن مؤشرات الأجور والتوظيف “تنبئ بأزمة بنيوية تضرب في صميم اقتصاد الكيان وتنأى به عن مستويات ما قبل الحرب”.
وتُفصح الأرقام عن حقيقة مُرة، إذ هوى متوسط الأجور في قطاع التكنولوجيا المتقدمة خلال شهر آب/أغسطس الماضي بنسبة 3.1% ليصل إلى 32,244 شيكل (قرابة 9,900 دولار أمريكي)، ويمثّل هذا الرقم انحداراً ملحوظاً مقارنةً بـ 33,168 شيكل في تموز/يوليو، ويبتعد مسافات شاسعة عن ذروته في آذار/مارس حين بلغ 36,731 شيكل (نحو 11,300 دولار).
تآكل الدعم الخارجي: أماطت صحيفة “غلوبس” الاقتصادية العبرية اللثام عن حقيقة مفزعة للكيان، إذ تلاشى التوافق التاريخي بين الحزبين السياسيين في أمريكا (الديمقراطي والجمهوري) على دعم الكيان الصهيوني، وبات مستقبل المساندة الأمريكية لهذا الكيان في مهب الريح، تتقاذفه أهواء اليمين واليسار.
وأوضحت الصحيفة أن الدعم الأمريكي للكيان، الذي كان يُعدُّ من المسلَّمات على مدى عقود، يواجه الآن تهديداً متعاظماً من كلا الجناحين السياسيين.
فالديمقراطيون الشباب يميلون بقلوبهم نحو القضية الفلسطينية، بينما برزت في أوساط اليمين الانعزالي وبين أرباب المنابر الإعلامية نزعات معادية لليهود، ما قوَّض أركان التحالفات السياسية التي طالما رسخت دعائمها على مر السنين.
وأفصحت مؤسسة “بيو” في أحدث استطلاعاتها، الذي أُجري قبل أسبوعين، عن سابقة تاريخية في الولايات المتحدة، إذ تجاوز عدد مناصري فلسطين عدد مؤيدي الكيان الصهيوني، ويكشف الاستطلاع أن 51% مقابل 47% يطالبون الآن بدعم الحكومة الأمريكية للفلسطينيين، فيما أعرب 2% عن حيادهم.
مجتمع تداعت أركانه وبطل من سراب
أفضت الأزمات المتشعبة في الكيان الصهيوني إلى تقويض صورة نتنياهو جذرياً بين الصهاينة، ذاك الذي طالما تصوَّر نفسه مخلِّص الأمة العبرية، ويواجه نتنياهو اليوم ملفات متعددة تحاصره من كل جانب، وباتت تنذر بأفول نجمه السياسي وانطوائه في صفحات النسيان:
دوامة الفساد المستشري: في الوقت الذي دخلت فيه قضايا الفساد المالي ضد نتنياهو أروقة المحاكم في مراحلها الحاسمة، تنبئ التقارير العبرية بأن مستقبله السياسي بات معلقاً بخيط واهٍ، وكانت القناة 12 الإسرائيلية قد أماطت اللثام سابقاً عن رد هرتسوغ على رسالة ترامب، إذ شكره على دعمه للكيان قائلاً: “إذا كان نتنياهو يريد الحصول علی العفو، فليتقدم بطلب رسمي وفق الأصول المرعية”، هذا في وقتٍ يرزح فيه رئيس وزراء الكيان الصهيوني تحت وطأة اتهامات متعددة، تتراوح بين الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة.
انطلقت جلسات محاكمته منذ عام 2020، وتصاعدت احتمالات إدانته في بعض القضايا، وأفصحت هيئة الإذاعة والتلفزيون الإسرائيلية مؤخراً عن زيادة وتيرة جلسات محاكمة نتنياهو إلى 4 مرات أسبوعياً اعتباراً من مطلع الشهر الجاري (تشرين الثاني/نوفمبر).
احتجاجات تتوالى كالأمواج: لا تنفك الاحتجاجات في المجتمع الصهيوني تتصاعد ضد نتنياهو، وعلى الرغم من استعادة الأسرى الإسرائيليين، ما زالت جموع الصهاينة تتدفق إلى الشوارع كالسيل الجارف، منددةً بسياساته، وفي مستهل هذا الأسبوع، اجتاحت آلاف الأصوات الغاضبة شوارع تل أبيب في مسيرة حاشدة طافت بمحيط وزارة الحرب وقلب المدينة، مطالبةً بتشكيل لجنة تحقيق رسمية مستقلة للوقوف على “عجز وإخفاق الحكومة والأجهزة الأمنية” للكيان الصهيوني في مواجهة عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وأفادت صحيفة هآرتس أن التجمع انطلق من محيط وزارة الحرب في شارع بيغين، ثم تدفقت الجموع الغفيرة نحو ساحة “هبيما”.
تنضوي هذه المظاهرات تحت لواء موجة جديدة من الاحتجاجات المطالبة بإجراء “تحقيق شامل” في الأداء السياسي والعسكري والاستخباراتي للحكومة إبان انطلاق عملية “طوفان الأقصى”، وكشف موقع "تايمز أوف إسرائيل" أن هذه الاحتجاجات لم تقتصر على تل أبيب، بل امتد لهيبها إلى مناطق شتى من الأراضي المحتلة.
وقبل يومين، وفي أثناء خطاب بنيامين نتنياهو في برلمان الكيان الصهيوني، هبَّ جمع من النواب والمحتجين من مقاعدهم وأداروا ظهورهم لرئيس الوزراء، في مشهد يعكس عمق السخط على سياساته.
ملف الهزيمة في الـ 7 من أكتوبر: كانت صدمة السابع من تشرين الأول/أكتوبر فضيحةً مدويةً ألصقت بحكومة نتنياهو وصمة عار لا تُمحى، ويكشف تقرير المفتش الخاص الإسرائيلي حول أسباب الهزيمة المنكرة التي مُني بها الكيان يوم الـ 7 من أكتوبر أمام حماس، أن نتنياهو كان أحد المتسببين الرئيسيين في هذا الإخفاق التاريخي.
وأوردت صحيفة هآرتس في تقرير مفصل، استناداً إلى هذه الوثيقة، أنه لو سلك نتنياهو مسلكاً مغايراً، لما تجرع الجيش الإسرائيلي كأس الهزيمة المرة (المخزية) في الـ 7 من أكتوبر (عملية طوفان الأقصى) أمام حماس، ولكان على أهبة الاستعداد بصورة أفضل.
وجاء في طيات التقرير أن الكيان الصهيوني أخفق في استيعاب الأبعاد الثلاثة الرئيسية لمفهوم الأمن، ويمكن القول إن الأركان الثلاثة الأساسية لأمن الكيان تداعت وانهارت في يوم عملية الـ 7 من أكتوبر (طوفان الأقصى).
ونشرت صحيفة يديعوت أحرونوت النص الكامل لهذا التقرير، مشيرةً إلى أن المفتش الإسرائيلي يؤكد على الإخفاق المستمر وطويل الأمد للكيان، ويصرح بوضوح أن المستوى السياسي يتحمل المسؤولية الكاملة عن التقصير في تهيئة المؤسسات المعنية لمجابهة التحديات الأمنية المتغيرة.
ويؤكد التقرير بوضوح لا لبس فيه أن بنيامين نتنياهو، الذي صيغت في عهد رئاسته للوزراء خلال عامي 2017 و2018 عقيدة أمن الكيان ويضطلع بمسؤولية تنفيذها واتخاذ القرارات بشأنها، قد نكل عن مسؤولياته ولم يؤدِ واجبه على الوجه الأكمل.
