الوقت- في ظل الخراب الهائل الذي خلّفه العدوان على قطاع غزة والحاجة الملحّة لإعادة إعمار مدنٍ دُمّرت، ظهر مشهدٌ يثير القلق: إعلانُ جهات عبرية عن دورٍ لمن وصِفوا بـميليشيات محلية لتأمين مشاريع الإعمار في رفح، وعلى رأسها مجموعة تُعرف باسم "أبو شباب"، هذا الإعلان لا يَحمل فقط رائحةَ تقاسم سلطة بعد الحرب، بل يكشف عن صراعٍ أُمميّ أخلاقي وقانوني حول من يَملكُ حقّ حماية المساعدات وتنفيذ المشاريع، ومن يستفيد فعلاً من المساعدات والموارد. عندما تكون القوىُ التي اتُهمت بسرقة المساعدات وتعاونها مع الاحتلال هي من سيؤمّن مشاريع إعادة الإعمار، فإن ذلك يطرح أسئلة وجودية عن شرعية هذه المشاريع، وعن مستقبل مجتمعٍ مراوحٌ بين التشرذم والوصاية، ويضع في قلب المعادلة مصير المقاومة وكرامة أهل غزة.
من هم "أبو شباب" فعلاً؟ سلطة أم عصابة؟
لم تولد ميليشيا "أبو شباب" فجأة كممثل شرعي للمجتمع أو كجهة تحظى بقبول شعبي؛ بل تشكّلت في الأساس كقوة محلية غير منضبطة، تتكوّن من عناصر اتُّهمت لسنوات بالانخراط في أنشطة إجرامية متعددة، من تهريب البضائع وتجارة المخدرات وصولاً إلى نهب المساعدات الإنسانية التي كان ينتظرها السكان في أشد لحظات حاجتهم، وتُظهر تقارير ميدانية وشهادات متطابقة أن أفرادًا من هذه المجموعة تورّطوا في عمليات ابتزاز وسلب لقوافل الإغاثة خلال فترات النزاع، مستغلّين الفوضى والفراغ الأمني لتحقيق مكاسب شخصية على حساب معاناة الناس، هذه الخلفية الثقيلة تجعل فكرة منح هذه الميليشيا أي دور رسمي أو منحها صفة "الحماية" لمشاريع إعادة الإعمار أمرًا فاقدًا تمامًا للشرعية الأخلاقية والمجتمعية.
فكيف يمكن لمجموعة تورّطت في التعدّي على قوت الناس، بل تماهت مع العدوان على أبناء غزة عبر أدوار ميدانية خدمت أجندات معادية، أن تُقدَّم اليوم كضامن لإعادة بناء حياة من دمّرت بيوتهم؟ إن تاريخ هذه الميليشيا، الملطّخ باستغلال الضعفاء والتربّح من مآسي المدنيين، يكشف أنها لم تكن يومًا جزءًا من النسيج الوطني، بل كانت دائمًا على هامشه، تعيش على الفوضى وتتغذّى من معاناة الناس، وبالتالي، فإن تمكينها من أي دور في مرحلة الإعمار لا يعني سوى إعادة إنتاج أدوات التخريب نفسها، وفتح الباب أمام مزيد من الفساد والهيمنة، وتحويل مستقبل غزة إلى ورقة مساومة تُدار بأيادٍ لا تعبأ بأرواح المدنيين ولا بدمائهم.
تعاون مع الكيان الصهيوني
تؤكد تقارير متعددة، إلى جانب اعترافات مباشرة صدرت عن قادة ميليشيا "أبو شباب"، أنهم يتلقون دعماً وتنسيقاً مستمراً مع قوات الكيان الصهيوني في مناطق شرق رفح، الأمر الذي يضعهم بوضوح في خانة الأدوات المرتبطة بالاحتلال، لا الأطراف المنبثقة عن الإرادة الشعبية، فعندما يتحوّل طرفٌ محلي إلى ذراع أمنية مساندة لقوةٍ محتلة، تُفقد أي إمكانية لبناء مشروع إعمار مستقل يخدم سكان غزة فعلياً، يصبح الإعمار، في هذه الحالة، غطاءً لمدّ نفوذ الاحتلال داخل البنية المدنية للقطاع، وصياغة واقع جديد تقوم فيه جماعة مسلّحة بديلة عن المؤسسات الفلسطينية الشرعية.
هذا النوع من التعاون لا يمكن اعتباره مجرد “تنسيق أمني”، بل هو خطوة خطيرة باتجاه فرض وصاية غير مباشرة على المجتمع الغزّاوي عبر وكلاء محليين يسهل التحكّم بهم، اعتماد الكيان الصهيوني على ميليشيا كهذه يهدف إلى خلق بيئة مفككة، تُدار فيها المناطق بمجموعات منفصلة لا تمتلك أي شرعية أخلاقية أو مجتمعية، ما يضعف وحدة القرار الوطني ويقوّض قدرة الفلسطينيين على إدارة شؤونهم بأنفسهم، وبذلك، يتحول مشروع الإعمار من أملٍ لإعادة الحياة إلى أداة تُستخدم لإعادة هيكلة النفوذ داخل غزة بما يخدم مصالح الاحتلال، لا حقوق السكان ولا مستقبلهم.
أثر النهب وسرقة المساعدات على الثقة المجتمعية
حسب تقارير ميدانية وإفادات متطابقة لسكان متضرّرين وعاملين إنسانيين، لعبت عناصر تابعة لمجموعة "أبو شباب" دورًا واضحًا في مصادرة المساعدات الإنسانية واحتجازها خلال فترات العدوان، وهو ما عمّق بصورة خطيرة أزمة الثقة بين المواطنين والجهات المكلّفة بتأمين الإغاثة، لم يكن النهب مجرد فعل معزول، بل ممارسة ممنهجة استغلت حالة الفوضى وانهيار المنظومة الخدماتية لتعظيم نفوذ هذه الميليشيا، فالاستيلاء على المساعدات لا يمسّ فقط شريحة واسعة من الأسر المحتاجة، بل يوجّه ضربة قاسية لأسس التضامن الاجتماعي الذي لطالما كان عنصر قوة لأهل غزة في مواجهة الحصار والعدوان.
هذه الانتهاكات لم تقتصر آثارها على حرمان الناس من حاجاتهم الأساسية، بل أسهمت في إضعاف أي جهد لإعادة ترميم المجتمع المدني وتثبيت الثقة بين المؤسسات الإنسانية والسكان، إذ ولّدت الممارسات القمعية شعورًا بالاستياء والغضب تجاه كل جهة يُشتبه بتعاونها مع الاحتلال أو مع هذه الفصائل الخارجة عن إرادة المجتمع، ومع تراكم هذه التجاوزات، أصبح النسيج الاجتماعي أكثر هشاشة، وتراجعت الحاضنة الشعبية لأي مشروع أو مبادرة تُقدَّم عبر قنوات غير موثوقة أو مرتبطة بأطراف تعمل لمصالحها الخاصة، وفي المحصلة، ساهمت عمليات النهب في تعميق الشرخ المجتمعي وعرقلة أي مسار لبناء بيئة مستقرة يمكن أن تنطلق منها عملية إعادة الإعمار بشكل عادل وشفاف.
تقويض المقاومة وتمهيد لشرعنة بدائل
إن إسناد دور "التأمين" لإحدى هذه الميليشيات لا يعتبر خطوة عابرة أو مجرد محاولة لملء الفراغ الأمني؛ بل هو فعل يحمل تبعات سياسية عميقة تمسّ جوهر معادلة القوة داخل قطاع غزة، فتمكين مجموعة مرتبطة بالكيان الصهيوني من مواقع حساسة في مرحلة إعادة الإعمار يوجّه ضربة مباشرة للسرد السياسي الذي تأسست عليه فكرة الصمود الوطني، ويحوّل مَن لا يمتلك شرعية شعبية إلى بديلٍ مصطنع عن البُنى الوطنية القائمة، هذه المعادلة تشكّل محاولة واضحة لإعادة هندسة المشهد السياسي في غزة عبر فتح المجال أمام قوى محلية مرتبطة بأجندات خارجية، قوى يُراد لها أن تظهر كبدائل "جاهزة" يمكن التعامل معها وتقديمها كخيار عملي في ظل الدمار والاحتياج.
ومثل هذا التمكين لا ينفصل عن رغبة أطراف خارجية في إنتاج سلطة محلية صديقة لها، تعمل على تهميش الأطر الوطنية الجامعة وإقصاء كل صوت مستقل يطالب بقرار داخلي حرّ، فبدلاً من دعم مؤسسات فلسطينية شرعية، يتم الدفع نحو وكلاء مسلحين يسهل تطويعهم سياسيًا، بما يفتح الباب أمام إعادة توزيع النفوذ داخل القطاع بطريقة لا تخدم المصلحة العامة، وبهذا، يصبح الإعمار أداة لإعادة تشكيل الخريطة السياسية، لا مشروعًا وطنيًا لإنقاذ الناس وإعادة بناء ما دمره العدوان، إنها محاولة لتطبيع وجود جماعات دخيلة على الحساب الوطني، وإيجاد بيئة تسمح بإضعاف أي إطار سياسي أو اجتماعي يتمسّك بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وحماية كرامتهم.
رفض الشعب للميليشيات الدخيلة ودعم الخيار الوطني المقاوم
تسعى ميليشيا "أبو شباب"، بدعم مباشر من الكيان الصهيوني، إلى تقديم نفسها كقوة بديلة داخل المجتمع الغزّاوي، في محاولة لخلخلة الجبهة الداخلية وتمزيق النسيج الوطني. إلا أن الفلسطينيين أدركوا منذ اللحظة الأولى أن هذه المجموعة ليست سوى امتداد لسياسات الاحتلال الرامية إلى خلق أدوات محلية تُنفّذ أجنداته وتساهم في تقويض إرادة الناس. فبينما انشغلت هذه الميليشيا بسلب المساعدات واستغلال معاناة السكان، ظلّ الخيار الوطني المقاوم — الذي تتقدّمه القوى المتمسكة بحق الفلسطينيين في الدفاع عن أرضهم وهويتهم — هو السدّ الحقيقي الذي تصطدم به كل محاولات الاختراق الداخلي. ولذلك، فإن كل محاولات الكيان الصهيوني لبناء بدائل مصطنعة عبر مجموعات دخيلة فشلت أمام صمود الشعب وإصراره على الاحتفاظ بخياراته الأصيلة، وفي مقدمتها استمرار المقاومة بوصفها التعبير الأصدق عن إرادته ورفضه لأي دور لقوى تعمل ضد مصلحته، إن الدعم الشعبي الواسع لهذا النهج يثبت أن أي مشروع لا يستند إلى شرعية المجتمع ولا يحترم تضحياته سيبقى مرفوضًا مهما تعددت أدوات الاحتلال ومهما حاول إعادة تشكيل الواقع بالقوة أو عبر وكلاء محليين.
في الختام، يحاول الكيان الصهيوني، منذ بداية عدوانه على غزة، صناعة كيانات محلية بديلة تشكّل واجهةً فلسطينية خاضعة لإرادته، بهدف تقويض الإرادة الشعبية وتفكيك البنية الوطنية للقطاع، فبعد عجزه عن كسر صمود الناس بالقوة العسكرية، اتجه إلى الرهان على مجموعات هامشية مثل ميليشيا "أبو شباب"، ساعيًا إلى تقديمها كبديل عن القوى الوطنية الراسخة، غير أنّ الواقع الغزّاوي أثبت أن هذا الرهان هشّ منذ لحظته الأولى، فالناس الذين واجهوا أعتى آلة حرب في المنطقة لا يمكن أن يقبلوا بمجموعات دخيلة تفتقر إلى الشرعية، مزّقت ما استطاعت من بُنى المجتمع، ونهبت ما وصلت إليه من مساعدات، ثم أرادت أن تظهر فجأة كقوة ضامنة لمستقبل الإعمار.
لقد فشل الاحتلال عبر عقود في فرض وكلاء محليين يتحكمون بالقرار الفلسطيني، وفشله اليوم أكثر وضوحًا، لأن وعي المجتمع الغزّاوي بلغ درجة من النضج جعلته يفضح كل محاولة لزرع بدائل تابعة للقرار الصهيوني، الشعب الذي التفّ حول مشروعه الوطني واحتضن مقاومته يدرك أن أي قوة تُفرض عليه من الخارج ليست سوى أداة لا تقلّ خطورة عن الاحتلال نفسه، ولهذا، كل مشروع يهدف إلى تجاوز الإرادة الشعبية عبر تمكين الميليشيات المرتبطة بالاحتلال لن يكتب له النجاح، أمام مجتمع أثبت أن بوصلته واضحة وأن صموده أقوى من أن يُختَرق بأي بديل مصطنع أو مدفوع من خارج سياقه الوطني.
