الوقت – مع اشتداد مساعي الوسطاء لإطلاق المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار في غزة، دخلت المباحثات حول القضايا المصيرية كآلية إدارة القطاع سياسياً وأمنياً في حقبة ما بعد الحرب، منعطفاً دقيقاً يحمل في طياته تحديات جسام، وبالتزامن مع هذا الحراك الإقليمي المحموم، التأم شمل الفصائل الفلسطينية لتوحيد رؤاها وتنسيق مواقفها في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ القضية.
في هذا السياق المفصلي، عقدت ثلة من الفصائل الفلسطينية يومي الـ 24 والـ 25 من أكتوبر لقاءً في القاهرة، لتدارس آخر مستجدات القضية الفلسطينية، وحسب ما جاء في بيان حماس، شدد المجتمعون على ضرورة التمسك بتنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار واستمراريته.
وأفصح البيان بلغة لا تقبل التأويل أن إنجاز هذا الاتفاق يستلزم جلاء قوات الاحتلال عن أرض غزة، وفك أغلال الحصار الخانق عن القطاع، وفتح أبواب المعابر كافة ولا سيما معبر رفح الشريان الحيوي، والسماح بانسياب المستلزمات الإنسانية والطبية دون عراقيل تذكر، وإطلاق عملية إعمار شاملة تعيد للحياة نبضها الطبيعي، وتخفف من وطأة المعاناة التي تثقل كاهل أبناء غزة الصامدين.
انعقد هذا اللقاء في إطار المساعي المصرية الحثيثة لإحياء شعلة الحوار الوطني بين أطياف الفصائل الفلسطينية، وردم الهوة بين شتى التيارات، كما دعت الحركات الفلسطينية بصوت واحد إلى عقد مؤتمر جامع يضمّ تحت جناحيه كافة الفصائل والتيارات الوطنية للتوافق على استراتيجية موحدة ترسم ملامح مستقبل فلسطين، وإعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني بصورة شاملة، تحتضن في محرابها جميع القوى الفلسطينية على اختلاف مشاربها.
وفي خطوة لاقت استحساناً واسعاً، وافقت الفصائل الفلسطينية على تفويض إدارة غزة إلى لجنة فلسطينية مؤقتة من أبناء القطاع الأوفياء، على أن تشكل لجنة دولية للإشراف على تدفق الأموال وتنفيذ مشاريع إعادة الإعمار، مع التشديد على وحدة النظام ووحدة الصف.
جرت وقائع هذا اللقاء المصيري في ظل خروقات متكررة للمرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار من قبل الكيان الصهيوني، الذي قوّض أركان الاتفاق بهجماته المتواصلة على مناطق شمال القطاع وجنوبه، ووضع العراقيل في طريق قوافل المساعدات الإنسانية، ما أفرغ الاتفاق من مضمونه الحقيقي، وعليه، وفي ضوء سلسلة طويلة من نكث العهود من جانب الكيان الصهيوني، يتطلع الفلسطينيون في المراحل القادمة إلى اعتماد تدابير صارمة تسدّ منافذ أي تكرار للعدوان، أو التملص من الالتزامات المترتبة على الاتفاق.
من جهة أخرى، تبذل الفصائل الفلسطينية بوساطة مصرية جهوداً مضنيةً لتفويت الفرصة على الكيان الصهيوني في اختلاق الذرائع الواهية، وتعبيد الطريق أمام إدارة قطاع غزة من قبل أبنائه الفلسطينيين الذين هم أدرى بشعابه.
قمع الفلسطينيين عبر إنشاء مركز التنسيق العسكري والمدني
انعقد مؤتمر الفصائل الفلسطينية بينما كان كبار أركان الإدارة الأمريكية يجوبون الأراضي المحتلة وعدداً من الدول العربية، في محاولة لتهيئة الأجواء لتنفيذ المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار في غزة، ورغم ما تروجه بعض المصادر من أن إدارة ترامب تمارس ضغوطاً على نتنياهو للحفاظ على هدنة هشة، فإن حضور مبعوثي واشنطن في المنطقة ينمّ عن سعي أمريكي حثيث، بالتنسيق مع دول عربية، لدفع مخططات الكيان الصهيوني لمستقبل غزة في إطار تنفيذ المرحلة الثانية من خطة وقف إطلاق النار.
من بين الإجراءات التي ابتدعتها واشنطن لتبديد مخاوف الصهاينة، إنشاء مركز التنسيق المدني-العسكري الذي باشر نشاطه مؤخراً في الأراضي المحتلة، متذرعاً بهدف معلن يتمثل في توفير آلية أساسية لضمان انتقال غزة إلى ما يسمونه بالاستقرار والحكم المدني، بطريقة تصونها من المخاطر وتضمن استدامتها.
ووفقاً لمزاعم قائد “سنتكوم”، فإن محور اهتمام هذا المركز ينصبّ على ضمان تدفق سلس وفعال للمساعدات الإنسانية واللوجستية والأمنية إلى غزة، ومن المقرر أن يحل هذا التشكيل ذو الواجهة الإنسانية الخادعة محل مؤسسات راسخة مثل الأونروا التي اضطلعت بمسؤولية توزيع المعونات الخارجية للفلسطينيين على مدى عقود طويلة.
وفقاً لخطة ترامب، كان من المفترض أن تتولى لجنة من الدول زمام الإدارة السياسية والأمنية للقطاع، لكن أقطاب تل أبيب يعارضون هذا التوجه بشدة، ويرفضون مشاركة أي طرف يصنّفه الكيان الإسرائيلي في خانة داعمي حماس.
لم يلق مركز التنسيق العسكري والمدني، الذي لا تزال تفاصيله ملفوفةً بغلالة من الغموض، ترحيباً من المجتمع الدولي. فالأمم المتحدة والعديد من الدول تنظر بعين الريبة إلى النوايا الحقيقية للكيان الصهيوني، وترجح أن يكون هذا المركز أداةً للهيمنة على غزة أكثر منه وسيلةً لمدّ يد العون الحقيقي للفلسطينيين، وقد أفضت التجارب المريرة والانتهاكات المتكررة للعهود من قبل الكيان الصهيوني، إلى تبدد أي أمل في إدارة مستقلة تلبّي الاحتياجات الإنسانية والخدمية لسكان غزة المنكوبين.
وعليه، يبدو جلياً أن مركز التنسيق العسكري-المدني سيتحول تحت ستار الأغراض الإنسانية البراقة، إلى أداة طيعة لرصد ومراقبة كل تحركات الفصائل الفلسطينية، وتسهيل عملية نزع سلاح المقاومة في غزة، والاستحواذ على دفة عملية إعادة الإعمار بإدارة أمريكية صرفة، ومن ثم تمكين الصهاينة من بسط نفوذهم على هذه البقعة المباركة من أرض فلسطين.
لا يمكن لهذا المركز المشبوه أن يلبي تطلعات أبناء فلسطين، فتجربة العامين المنصرمين تكشف بجلاء أن هذا الكيان الصهيوني يقف وراء إزهاق أرواح عشرات الآلاف من الفلسطينيين وتدمير البنية التحتية على نطاق غير مسبوق، وبناءً عليه، فمن منظور الفلسطينيين، فإن أي هيئة تخضع لإشراف تل أبيب، ستعجز حتماً عن توفير إدارة مستقلة وعادلة تستجيب للاحتياجات الإنسانية والخدمية والصحية لأهالي غزة، ولذا فإن إدارة وقرارات الفلسطينيين وحدها هي الكفيلة بضمان رفاهية سكان القطاع الصامدين.
ترسيخ السيادة الفلسطينية على أرض غزة
تتمسك الفصائل الفلسطينية بضرورة الاعتراف بالسيادة الوطنية الفلسطينية على غزة في المرحلة الثانية من الاتفاق، وأن تؤول مقاليد الإدارة الكاملة للمنطقة، من الشؤون الإدارية والخدمية إلى الصحة العامة وتوزيع المساعدات الإنسانية، إلى أيدٍ فلسطينية تصون كرامة الوطن والمواطن.
وهم يؤمنون إيماناً راسخاً بأن الإدارة الوطنية النابعة من صميم الأرض، وحدها القادرة على ضمان نجاح عملية إعادة الإعمار واستعادة نبض الحياة الطبيعية في ربوع غزة، ويستند هذا الموقف الصلب إلى مرارة التجارب السابقة، حيث أفضت هجمات الكيان الصهيوني الوحشية خلال العامين المنصرمين، إلى ارتقاء عشرات الآلاف من الشهداء الفلسطينيين وتقويض أركان البنية التحتية الحيوية في غزة.
من وجهة نظر الفصائل الفلسطينية، فإن كياناً غاصباً يتحمل وزر الدمار والخراب ومعاناة أهل غزة، يفتقر إلى أدنى درجات الشرعية والأهلية اللازمة لإدارة هذه الأرض المقدسة، وأن وجوده أو إشرافه على الشؤون الداخلية لغزة يمثل انتهاكاً صارخاً لحق السيادة المشروع للشعب الفلسطيني، لذلك، فإن تقرير مصير أبناء فلسطين يعدّ خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال، وهي قضية محسومة لا تقبل المساومة أو التراجع.
تجمع التيارات السياسية الفلسطينية كل على ضرورة تشكيل لجنة من أصحاب الكفاءات والخبرات لإدارة شؤون غزة، والغاية المنشودة من هذا الإجراء هي إرساء دعائم إدارة محايدة تتولى تسيير الشؤون الإدارية والخدمية والصحية بكفاءة عالية، وتعجيل وتيرة إعادة الإعمار، وتوزيع المساعدات بميزان العدل، واستعادة الاستقرار المنشود للمنطقة المنكوبة، كما ستمهد هذه اللجنة الطريق لاسترداد السيادة الفلسطينية وإقامة إدارة مستقلة في ربوع غزة، وهي مهمة جسيمة تعجز عنها لجان مشكلة من دول أجنبية تأتمر بإملاءات واشنطن وتل أبيب.
وبالنظر إلى التباين الشاسع بين مواقف الفلسطينيين والكيان الصهيوني إزاء خطة ترامب، التي صيغت بنودها بما يخدم مصالح الصهاينة ويلبي طموحاتهم، لا تزال آفاق تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار يكتنفها الغموض والضبابية، ويتعامل الفلسطينيون مع احتمالية قبولها بحذر شديد وريبة بالغة، ولهذا السبب، فإن إجماع الفصائل الفلسطينية على إدارة غزة من خلال منظمة التحرير الفلسطينية، يمثّل خطوةً استراتيجيةً محكمةً للحيلولة دون فرض خطة ترامب من جانب واحد وصدّ هيمنة الكيان الصهيوني، حفاظاً على السيادة الوطنية الفلسطينية التي لا تقبل المساومة.
علاوةً على ما تقدم، وبالنظر إلى أن نزع سلاح المقاومة يمثّل حجر الزاوية في مطالب أمريكا والكيان الصهيوني في المرحلة الثانية من الاتفاق، وهو مطلب يتشبثون به بعناد شديد، فإن التيارات الفلسطينية ترفض رفضاً قاطعاً الانصياع لإملاءات الکيان في هذا الشأن المصيري، فبغياب السلاح، سيجد الكيان الصهيوني الطريق ممهدةً أمامه للمضي قدماً في مخططاته الاستيطانية التوسعية، ولذلك تسعى الفصائل الفلسطينية قاطبةً إلى إبقاء الشؤون الأمنية، شأنها في ذلك شأن الجانب السياسي، تحت مظلة الإدارة والتنسيق الفلسطيني الخالص، ولسدّ الطريق أمام نتنياهو وحكومته المتطرفة من اختلاق الذرائع الواهية لنقض الاتفاق، اقترحت تشكيل لجنة تتجاوز الانتماءات الفصائلية لتضمّ تحت جناحيها طيف الفصائل الفلسطينية كافة، وليس حماس والجهاد الإسلامي فحسب.
وفي خاتمة المطاف، يرى ثلة من الخبراء والمحللين أن خطة ترامب محكوم عليها بالفشل الذريع على المدى البعيد، لتجاهلها الحقوق الأساسية المشروعة للشعب الفلسطيني، فلكي تؤتي أي خطة ثمارها وتفضي إلى سلام دائم وعادل، يتعين عليها أن تحتضن المطالب المشروعة للفلسطينيين بشمولية تامة، وإلا فإن أي اتفاق لن يعدو كونه مسكناً مؤقتاً لآلام مزمنة، عاجزاً عن حل عقدة النزاع المستعصي الذي امتد على مدى ثمانية عقود في الأراضي المحتلة.
