الوقت- في سياق التطورات الأخيرة التي طرأت على الصراع بين حركة حماس والجهات التابعة لقطاع غزة من جهة، والاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى، وعلى خلفية التوقيع الذي تم في شرم الشيخ (مصر) بتاريخ 9 أكتوبر 2025 والذي يُعرف بـ«وثيقة المرحلة الأولى لوقف إطلاق النار» تحت رعاية أميركية وأطراف وسيطة إقليمية، بات واضحاً أن الاتفاق ليس فقط في خانة إنهاء مباشر للصراع، بل أُحيط بسياق مصلحي إستراتيجي يُحتّم تحليل العوامل المحرّكة له وعلاقات القوى المتشابكة داخلياً وإقليمياً بما يتجاوز مجرد وقف القتال وتحويله إلى أداة ضغط وتفاوض.
مؤشرات تنفيذ جزئية ومظاهر هشاشة ميدانية
في الواقع، أُعلن عن خطوات تنفيذية منها تبادل جثث أسرى وأحياء، وعودة بعض القوات إلى خطوط التمركز، وفتح ممرات إنسانية محدودة في غزة. فقد أعلنت الجزيرة أن رفات من الأسرى الإسرائيليين تم تسليمهما، في حين تؤكد حماس أن الاحتلال ما زال يرفض فتح معبر رفح لعبور الجرحى والمساعدات.
رغم ما يُحتفى به إعلامياً كتقدّم، فإن تقارير بحثية تشير إلى أن الاتفاق يمثّل محطة أولى هشّة لا تتجاوز البدء في تهدئة مؤقتة
منطق الاحتلال في دفع الاتفاق إلى حافة الانهيار
بعض المراقبين يرون أن أطرافاً في قيادة الاحتلال تتعامل مع اتفاق شرم الشيخ كوسيلة ضغط سياسية، عبر دفعه إلى حافة الانهيار ثم التراجع للحفاظ على مكاسب تفاوضية جديدة. هذه الإستراتيجية تُمكّن الاحتلال من اختبار ردود الفعل الدولية والفلسطينية، وتسمح له باستثمار لحظة «الخطر» لإعادة صياغة البنود بما يخدم مصالحه الأمنية والسياسية الداخلية.
يظهر هذا النمط بوضوح من خلال استمرار الخروقات الميدانية، ورفض فتح بعض المعابر، وتأخير تنفيذ البنود المتفق عليها، وهي كلها خطوات تُبقي الاتفاق رهينة بيد حكومة الاحتلال.
الدور الأمريكي: وساطة أم إعادة إنتاج للأزمة؟
واشنطن لعبت دور الوسيط المركزي في صياغة الوثيقة وضمان انطلاقها، لكن تقارير عديدة تشير إلى أن الدور الأمريكي مزدوج؛ فمن جهة ساعد على وقف القتال، ومن جهة أخرى حافظ على «هوامش مناورة» للاحتلال. إذ لم تُجبر واشنطن حكومة الاحتلال على الالتزام الكامل ببنود الانسحاب أو السماح بتدفق المساعدات، ما جعل الموقف الأميركي محل انتقاد فلسطيني واسع اعتبره انحيازاً عملياً.
وتشير دراسات إلى أن الولايات المتحدة تسعى لتهيئة الأوضاع الميدانية والسياسية قبل فرض حلّ نهائي، ما يعني أن الضغط الأميركي ليس دائماً في اتجاه السلام، بل أحياناً في اتجاه تثبيت واقع جديد يخدم الاستقرار الأمني الإسرائيلي أكثر مما يخدم إنهاء الاحتلال.
الموقف الفلسطيني: قبول مشروط وحذر من الاستغلال
في المقابل، تتعامل حركة حماس مع الاتفاق بحذر واضح. فهي تدرك أن التنفيذ الجزئي يمكن أن يُستغل لتكريس واقع جديد دون تحقيق أي مكاسب ملموسة، مثل رفع الحصار أو الاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية. وقد وصف مراقبون هذا الموقف بأنه «رهان الضرورة»، إذ لم يكن أمام الحركة سوى القبول المؤقت لتخفيف المعاناة الإنسانية عن سكان القطاع.
تقرير نشرته صحيفة لوموند الفرنسية أشار إلى أن حماس تراهن على الاتفاق دون ضمانات حقيقية، وتخشى أن يتحول إلى فخّ سياسي يجمّد الصراع بدل أن يُنهيه.
الوسطاء الإقليميون بين الدعم والقلق
الدور المصري والقطري والتركي كان محوريًا في بلورة الاتفاق وضمان تطبيقه الأولي. غير أن هذه الدول تتخوف من أن يُستغل الاتفاق داخليًا أو يُفرغ من مضمونه السياسي. فمصر، التي رعت المفاوضات، تسعى للحفاظ على هدوء حدودها وضمان استمرار دورها الدبلوماسي، بينما ترى قطر وتركيا أن تطبيق بنود الاتفاق شرط لبناء الثقة بين الفلسطينيين والمجتمع الدولي. ومع ذلك، تظل قدرة هؤلاء الوسطاء محدودة ما لم يلتزم الاحتلال فعلياً ببنود الاتفاق.
اتفاق على الورق ومعارك في الميدان
المشهد الميداني ما يزال معقداً، إذ تتحدث تقارير حقوقية عن عمليات محدودة يقوم بها جيش الاحتلال في مناطق شمال غزة، وعن استمرار تحليق الطائرات بدون طيار فوق القطاع، إضافة إلى استمرار الحصار على المعابر. هذه الانتهاكات المتكررة تضع الوسطاء في مأزق، إذ لا يملكون آلية ردع فعّالة ضد الاحتلال.
وفي الوقت ذاته، فإن حماس وفصائل المقاومة ما زالت تحذر من أن استمرار الانتهاكات سيؤدي إلى انهيار الاتفاق بالكامل، ما يعيد دورة المواجهة العسكرية من جديد.
نحو ماذا يتجه اتفاق شرم الشيخ؟
مع استمرار الخلافات الجوهرية حول تفسير البنود وآليات التنفيذ، يبدو أن اتفاق شرم الشيخ في طريقه لأن يصبح تجميداً مؤقتاً للنزاع وليس مدخلاً لحل سياسي شامل. فالاحتلال يستفيد من الوقت لإعادة تموضع قواته وتحسين صورته أمام المجتمع الدولي، بينما تسعى حماس إلى توظيف الاتفاق لتحسين ظروف غزة المعيشية دون تقديم تنازلات سياسية.
ويرى محللون أن الاتفاق إذا نجح في الانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار وضمان الرقابة الدولية، فقد يتحول إلى قاعدة لبناء ثقة متبادلة، أما إذا استمر التعطيل، فسيصبح مجرد فصل جديد في سلسلة اتفاقات مؤقتة تتبعها جولات عنف جديدة.
الواقع يشير إلى أن اتفاق شرم الشيخ يعكس توازن ضعف أكثر مما يعكس توازن مصالح. فكل طرف يحاول استخدامه كأداة ضغط لا كفرصة سلام. الاحتلال يدفعه إلى الحافة ثم يتراجع لتثبيت هيمنته، وحماس تقبله اضطراراً لتخفيف الكارثة الإنسانية، والولايات المتحدة تسعى لإدارته لا لحله. إن لم تتوفر آلية رقابة دولية ملزمة وضمانات حقيقية، فسيبقى الاتفاق حبراً على ورق، قابلاً للانهيار مع أول خرق ميداني أو تغيير في المزاج السياسي داخل الكيان الاسرائيلي أو واشنطن.
