الوقت- في تطور جديد يعكس وحشية العدوان الإسرائيلي، استهدفت الطائرات الإسرائيلية مواقع أثرية يمنية عريقة وفي مقدمتها المتحف الوطني في صنعاء، ما أدى إلى تدمير أجزاء مهمة من المباني التاريخية وإلحاق أضرار بقطع أثرية نادرة تعود إلى آلاف السنين، هذا الاعتداء لم يكن مجرد عمل عسكري عابر أو خطأ عرضي كما تحاول بعض الجهات تبريره، بل جاء في سياق سياسة ممنهجة تستهدف محو الهوية الثقافية للشعب اليمني والتعدي على رصيده الحضاري الذي يشكّل جزءاً من التراث الإنساني العالمي، إن ما يجري لا يمكن فهمه إلا ضمن مشروع أكبر يسعى إلى إضعاف اليمن معنوياً وثقافياً إلى جانب محاصرته اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
وقائع الهجوم على المتحف الوطني
الوقائع التي نقلتها وسائل الإعلام العالمية والإقليمية مثل قناة الجزيرة ووكالات الأنباء الغربية تؤكد أن الغارات الإسرائيلية على صنعاء ألحقت دماراً في واجهة المتحف الوطني، كما تسببت بتصدّع بعض الجدران وانهيار نوافذ وأبواب، الأمر الذي أدى إلى تشظي زجاج العرض وسقوط بعض القطع الأثرية. وزارة الثقافة اليمنية وصفت ما حدث بأنه جريمة حرب مكتملة الأركان، وأكدت أن استهداف المتحف الوطني ليس له أي مبرر عسكري وإنما يهدف إلى طمس ذاكرة اليمن التاريخية التي تعود إلى حضارات سبأ ومعين وحِمْير، وتشير التقارير إلى أن بعض القطع البرونزية القديمة التي يتجاوز عمرها أربعة آلاف عام تعرضت لأضرار مباشرة، وأن الخطوط اليمنية القديمة المكتوبة بالمسند تضررت بشدة، ما يفتح الباب أمام فقدان لا يُعوّض لموروث إنساني لا يقدّر بثمن.
أضرار شملت المدنيين والمعالم التاريخية
لم تقتصر أضرار الغارات الإسرائيلية على المتحف الوطني فحسب، بل امتدت إلى مبانٍ تاريخية مجاورة وأحياء سكنية تحتضن موروثاً معمارياً فريداً، في وقت أعلن فيه الحوثيون أن عشرات المدنيين سقطوا بين قتيل وجريح نتيجة القصف، إن استهداف المدنيين والمنشآت الأثرية معاً يكشف الطبيعة الحقيقية للعدوان الذي يتذرع بالتصدي لهجمات اليمن بينما يتعمّد ضرب كل ما يرمز إلى تاريخ اليمن وعمقه الحضاري، "إسرائيل" تعلم جيداً أن الشعب اليمني يستمد الكثير من قوته المعنوية من ارتباطه بجذوره التاريخية، ولذلك فإن تدمير المتاحف والمعالم يمثل ضربة نفسية تستهدف كسر الإرادة الوطنية.
البعد الاستراتيجي للاستهداف الثقافي
من الناحية التحليلية، لا يمكن فصل هذه الضربات عن استراتيجية أوسع تتبعها "إسرائيل" في تعاملها مع جبهات المقاومة في المنطقة، فكما فعلت في غزة حين دمّرت المساجد والكنائس والمكتبات والمراكز الثقافية، ها هي تكرر الفعل نفسه في صنعاء، الرسالة واضحة: تدمير البنية الثقافية والحضارية للشعوب جزء من الحرب، وهو سلاح مكمّل للقتل والحصار، وهذا يكشف أن الأمر ليس مجرد رد عسكري على إطلاق طائرات مسيّرة من اليمن باتجاه إيلات، بل هو سياسة مع سبق الإصرار تسعى إلى جعل الشعب اليمني يعيش حالة من الانفصال عن تاريخه وشعوره بالانتماء.
مخالفة صارخة للقانون الدولي
القانون الدولي الإنساني واضح في هذا الشأن، إذ تنص اتفاقيات لاهاي واتفاقية جنيف على حماية التراث الثقافي أثناء النزاعات المسلحة، وتحظر استهداف المتاحف والآثار حتى لو وُجدت في مناطق حرب، لكن "إسرائيل" لم تلتزم بهذه القواعد، بل تتعمد انتهاكها في أكثر من ساحة، وهو ما يجعل من الضروري تحريك دعاوى أمام المحاكم الدولية لاعتبار ما حدث في صنعاء جريمة حرب، الأمم المتحدة ومنظمة اليونيسكو تتحملان مسؤولية كبيرة في هذا المجال، إذ يجب أن يتحركا بشكل عاجل لإرسال بعثات ميدانية لتوثيق حجم الأضرار ومنع استمرار الاستهداف، وإلا فإن صمتهما سيعني ضوءاً أخضر لمزيد من الاعتداءات على الذاكرة الإنسانية.
خسارة إنسانية لا تخص اليمن وحده
من الجانب الأخلاقي، إن تدمير المتحف الوطني في صنعاء لا يمس اليمن وحده، بل يمثل خسارة للبشرية جمعاء، التراث اليمني جزء من التراث الإنساني العالمي، وما يتعرض له اليوم يذكّر بما حدث لآثار تدمر في سوريا أو متاحف العراق بعد الاحتلال الأمريكي، إنّ كل ضربة على صرح تاريخي هي ضربة لذاكرة الإنسانية ولعلاقتها بجذورها، ولذلك فإن الشعب اليمني محق في اعتباره أن ما جرى عدوان يتجاوز حدود الحرب العسكرية ليصبح حرباً على الوجود الثقافي ذاته.
التداعيات على المجتمع والهوية الوطنية
التداعيات على الداخل اليمني خطيرة للغاية، فالمتحف الوطني ليس مجرد مبنى يحتوي قطعاً أثرية، بل هو رمز للهوية الوطنية ومركز لتعليم الأجيال الجديدة عن تاريخها العريق، تدميره أو إضعافه سيؤثر على علاقة اليمنيين بماضيهم، وسيزيد من شعورهم بأنهم مستهدفون في كل شيء، من حياتهم اليومية إلى تراثهم الروحي والحضاري، كما أن إعادة الترميم في ظل الظروف الاقتصادية الخانقة والحصار المفروض على اليمن ستكون مهمة شبه مستحيلة، ما يهدد بفقدان هذا الإرث إلى الأبد.
الرسائل السياسية وردود الفعل
على الصعيد السياسي، من الواضح أن "إسرائيل" أرادت من خلال هذه الغارات إرسال رسالة ردع لليمن مفادها بأن أي هجوم على الداخل الإسرائيلي سيقابَل بضربات قاسية في صنعاء، لكن اختيار المتحف الوطني كهدف جانبي يكشف أن الرد لم يكن عسكرياً بحتاً، بل كان يحمل بعداً رمزياً قاسياً، هذه السياسة قد ترتدّ سلباً على "إسرائيل" نفسها، إذ إنها ستزيد من تعاطف اليمنيين والعرب والمسلمين مع جماعة اليمن باعتبارهم المدافعين عن تراث بلدهم وكرامته، كما أنها ستعزز الخطاب الذي يقول إن "إسرائيل" لا تفرّق بين عدو عسكري ومدني أو بين مقاتل وأثر تاريخي.
ما جرى في صنعاء يجب أن يُواجَه بتحرك عربي وإسلامي عاجل، سواء عبر المؤسسات الثقافية أو المنظمات ومواصلة النضال لحماية اليمن من كل محاولات الطمس والإلغاء، لأن بقاء التراث هو بقاء اليمن نفسه.