الوقت- في بيان صريح ومباشر، شدّدت منظمة هيومن رايتس ووتش على أنّ الوضع الإنساني في قطاع غزة لم يكن يومًا طبيعيًا أو مستقرًا، بل كان كارثيًا حتى قبل التصعيد العسكري الإسرائيلي الأخير على مدينة غزة.
المنظمة الحقوقية الدولية لم تكتفِ هذه المرة بإدانة الجرائم، بل طالبت بخطوات عملية تشمل فرض عقوبات على الكيان الإسرائيلي ومسؤوليه، ووقف كل أشكال الدعم العسكري واللوجستي الموجّه إلى تل أبيب.
ولعل ما يميز هذا البيان أنّه يضع الولايات المتحدة في دائرة الاتهام أيضًا، مؤكدًا أنّ واشنطن لم تستخدم نفوذها لوقف الحرب بل على العكس ضاعفت من تدفق السلاح والمساندة، الأمر الذي يجعلها – حسب وصف المنظمة – شريكًا في الجرائم وليست مجرد داعم سياسي.
غزة: مأساة ممتدة قبل الحرب وبعدها
منذ سنوات طويلة يعاني سكان قطاع غزة من حصار خانق يطال كل تفاصيل حياتهم اليومية: الغذاء والدواء، الوقود والكهرباء، حرية التنقل والعمل، لكن الأشهر الأخيرة، ومع تكثيف الضربات الجوية ومحاولات الاحتلال التوغل البري، دفعت بالأوضاع نحو حافة الهاوية الإنسانية.
تشير تقارير إغاثية إلى أنّ المجاعة تضرب أحياء كاملة، وأن آلاف العائلات تعيش على وجبة واحدة يوميًا، بينما تعجز المستشفيات عن تقديم الخدمات بسبب نقص الوقود والأدوية، ومع ذلك، تقول المنظمة إنّ هذه الأزمة لم تبدأ مع التصعيد العسكري الأخير، بل هي نتاج حصار طويل الأمد، وتعمد الكيان الإسرائيلي استخدام التجويع كسلاح حرب ضد المدنيين.
دعوة إلى عقوبات دولية صارمة
الحظر التسليحي
أبرز ما جاء في بيان المنظمة هو الدعوة الواضحة إلى فرض حظر شامل على تصدير السلاح للكيان الإسرائيلي، مؤكدة أنّ أي رصاصة أو قذيفة تصل إلى جيش الاحتلال قد تُستخدم في ارتكاب مزيد من الانتهاكات بحق المدنيين.
استهداف المسؤولين المباشرين
كما شددت على ضرورة فرض عقوبات شخصية على المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في اتخاذ القرارات العسكرية والأمنية، مثل تجميد الأصول، منع السفر، والملاحقة القانونية، بحيث لا يبقى قادة الاحتلال بمنأى عن العدالة الدولية.
التحرك في مجلس الأمن والمحافل الدولية
طالبت المنظمة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة باستخدام نفوذها في مجلس الأمن والجمعية العامة لإقرار آليات ملزمة، بدل الاكتفاء ببيانات الشجب والاستنكار، معتبرة أن الوقت حان لخطوات عملية توقف نزيف الدم.
الولايات المتحدة: من الدعم إلى التورط
لم يقتصر البيان على الكيان الإسرائيلي، بل فتح ملف الدور الأمريكي الذي وُصف بأنّه "شراكة كاملة" في الجرائم. وأوضح أن:
- واشنطن لم تضغط لوقف إطلاق النار.
- زادت من حجم شحنات السلاح والذخيرة لـ"إسرائيل".
- وفرت غطاءً سياسيًا ودبلوماسيًا في مجلس الأمن ضد أي إدانة.
- ساهمت قواتها وخبراؤها العسكريون في تقديم دعم استخباراتي ولوجستي مباشر.
وحسب المنظمة، فإن هذه المعطيات تجعل الجنود والمقاولين الأمريكيين عرضة للمساءلة القانونية الدولية، لأن القانون الدولي لا يميز بين المنفذ المباشر للجريمة ومن يسهّل ارتكابها.
الإبادة الجماعية كإطار قانوني
تحدث البيان أيضًا عن وجود مؤشرات قوية على أنّ ما يجري في غزة يتجاوز وصف "جرائم الحرب" إلى مستوى الإبادة الجماعية، حيث يتعمد الكيان الإسرائيلي قتل المدنيين بالجملة، وتهجير السكان، وتدمير البنية التحتية الأساسية للحياة.
وإذ أشارت المنظمة إلى أن هذه السياسات ليست عشوائية بل ممنهجة ومخطط لها، دعت إلى فتح تحقيقات دولية عاجلة، ومحاسبة كل من تورط أو ساعد أو صمت عن هذه الجرائم.
ازدواجية المعايير الدولية
لفتت هيومن رايتس ووتش إلى أن جزءًا من تفاقم المأساة يعود إلى ازدواجية المعايير الغربية، حيث تُفرض العقوبات سريعًا على دول أو قادة آخرين بحجة انتهاكات أقل خطورة، بينما تتمتع "إسرائيل" بحصانة شبه كاملة، فقط لأنها حليف استراتيجي للغرب.
وأكدت أن هذه الازدواجية لا تقوض فقط مصداقية النظام الدولي، بل تشجع الكيان الإسرائيلي على التمادي، وتمنع الفلسطينيين من الحصول على الحد الأدنى من العدالة.
ماذا يعني فرض عقوبات على الكيان الإسرائيلي؟
في حال استجاب المجتمع الدولي لمطالب المنظمة، فإن العقوبات المتوقعة قد تشمل:
- وقف صادرات السلاح والذخيرة من الدول الكبرى للكيان الإسرائيلي.
- تجميد الأصول المالية لمسؤولين إسرائيليين في البنوك الدولية.
- منع السفر والتنقل عبر إصدار مذكرات توقيف أو إدراج أسماء في القوائم السوداء.
- حرمان الكيان الإسرائيلي من بعض الامتيازات التجارية مع الاتحاد الأوروبي ودول أخرى.
هذه الخطوات قد لا تنهي الحرب فورًا، لكنها ستشكل ضغطًا اقتصاديًا وسياسيًا كبيرًا على الحكومة الإسرائيلية وتجبرها على مراجعة سياساتها.
المجتمع المدني الفلسطيني تحت الاستهداف
أشارت المنظمة إلى أن الضغوط لا تقتصر على الفلسطينيين في الداخل، بل طالت أيضًا المنظمات الحقوقية الفلسطينية التي تعمل على توثيق الانتهاكات، ففي أكثر من مناسبة، جرى التضييق على هذه المؤسسات عبر اتهامها بدعم "الإرهاب" أو تهديدها بالمنع والإغلاق.
وهو ما اعتبرته المنظمة محاولة لإسكات الشهود، ومنع توثيق الجرائم التي قد تُستخدم في أي محكمة دولية لاحقًا.
مسؤولية الدول العربية والإسلامية
في سياق متصل، وجّه البيان تلميحًا غير مباشر إلى ضرورة أن تتحرك الدول العربية والإسلامية بشكل جماعي، سواء عبر منظمة التعاون الإسلامي أو من خلال مبادرات إقليمية، لإعادة تفعيل أدوات الضغط الدبلوماسي والاقتصادي.
فهذه الدول، رغم إمكاناتها الكبيرة، لم تستخدم بعد أوراقها كاملة، وخاصة في مجالات الطاقة والتبادل التجاري مع الغرب، ما قد يشكل ورقة ضغط قوية لوقف الجرائم.
وأنهت هيومن رايتس ووتش بيانها بجملة صارخة:
"لقد حذرنا مرارًا من أن الصمت والتقاعس الدولي سيجعل من واشنطن شريكًا في الإبادة الجارية ضد الفلسطينيين، وليس مجرد حليف للكيان الإسرائيلي".
وأكدت أن المجتمع الدولي اليوم أمام اختبار حقيقي: إما أن يثبت التزامه بالقانون الدولي وحقوق الإنسان عبر فرض العقوبات، أو أن يعترف بأن هذه القوانين لا تُطبَّق إلا انتقائيًا.
إنّ ما جاء في بيان هيومن رايتس ووتش يمثل تصعيدًا في لهجة المنظمات الحقوقية الدولية، ويفتح الباب أمام نقاش واسع حول جدوى العقوبات الدولية وإمكانية تحرك المجتمع الدولي ضد الكيان الإسرائيلي، وفي الوقت ذاته، يسلّط الضوء على مسؤولية الولايات المتحدة التي لم تعد قادرة على الاختباء خلف خطاب "الدعم التقليدي"، بعدما بات دورها المباشر مكشوفًا.
فالمأساة في غزة لم تعد أزمة فلسطينية فقط، بل أصبحت قضية أخلاقية وإنسانية عالمية، تمتحن صدقية النظام الدولي بأسره.