الوقت- في وقت تتصاعد فيه ألسنة النار في قطاع غزة، يزداد الانقسام داخل إسرائيل بين القيادة السياسية والعسكرية حول جدوى الاحتلال الشامل للقطاع، رئيس الأركان الإسرائيلي، إيال زامير، وجّه تحذيراً شديد اللهجة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من أن المضي قدماً في هذه الخطة سيعرّض حياة الأسرى الإسرائيليين للخطر، وسيدخل الجيش في مأزق استراتيجي طويل الأمد، هذا التحذير يأتي في لحظة حرجة، حيث يتزايد الغضب الدولي بسبب المجاعة التي تضرب غزة والمجازر التي تستهدف المدنيين والصحفيين، بينما يصر نتنياهو على مواصلة حربه التي باتت تُصوَّر باعتبارها حرباً شخصية للبقاء السياسي على حساب الأرواح.
خلاف عميق بين الجيش والسياسة
الخلاف لم يعد خافياً على أحد، زامير، في اجتماعات مغلقة، وصف خطة نتنياهو بأنها "فخ قاتل" يهدد حياة أكثر من مليوني فلسطيني في غزة ويحوّل "إسرائيل" إلى قوة احتلال غارقة في مستنقع لا نهاية له، وأكد أن الهجوم الكامل سيعرض حياة الأسرى الإسرائيليين لخطر الإعدام أو الفقدان النهائي، صحيفة فاينانشال تايمز (6 أغسطس 2025) أشارت إلى أن المؤسسة العسكرية ترى الخطة غير قابلة للتنفيذ من الناحية الميدانية وأنها وليدة ضغوط اليمين المتطرف داخل الحكومة.
في المقابل، يواصل نتنياهو التمسك بخطته، مبرراً أن القضاء على حماس بشكل كامل هو السبيل الوحيد لإعادة الأسرى، إلا أن هذا الموقف يتجاهل تحذيرات خبراء الأمن والجيش الذين يعتبرون أن العملية ستتحول إلى عبء عسكري وسياسي وأخلاقي يصعب تحمله.
الأسرى بين مطرقة الحرب وسندان السياسة
عائلات الأسرى الإسرائيليين رفعت صوتها مطالبة الحكومة بإبرام صفقة تبادل عاجلة تضمن عودة أبنائهم، معتبرة أن أي عملية عسكرية واسعة قد تكون حكماً بالإعدام عليهم، زامير نفسه شدد على أن هناك "صفقة محسنة" على الطاولة عبر الوساطة الأمريكية والقطرية والمصرية، مؤكداً أن الجيش وفّر الظروف الميدانية لإتمامها، تقرير الجزيرة (25 أغسطس 2025) أشار إلى أن رئيس الأركان دعا نتنياهو إلى استغلال هذه الفرصة بدل الانجرار نحو مغامرة قد تفقد "إسرائيل" ما تبقى من أوراق تفاوضية.
غير أن تعنت نتنياهو يظهر جلياً في رفضه لأي خطوة قد تُعتبر "تنازلاً" لحماس، ما يضع مصير الأسرى في مواجهة مباشرة مع طموحاته السياسية، هذا الانحياز للمنطق العسكري الأعمى يعكس سياسة إسرائيلية تقليدية تقوم على إنكار إنسانية الطرف الآخر واستخدام المدنيين والأسرى كورقة مساومة.
غزة تحت حصار الجوع والنار
في الوقت الذي تنشغل فيه الحكومة الإسرائيلية بصراعاتها الداخلية، يعيش قطاع غزة أسوأ كارثة إنسانية في تاريخه الحديث. الأمم المتحدة أعلنت أن القطاع يعاني من "مجاعة من صنع الإنسان"، حيث يواجه أكثر من نصف مليون شخص نقصاً حاداً في الغذاء، مع توقعات بارتفاع العدد إلى 640 ألفاً بنهاية سبتمبر. صحيفة ذا تايمز البريطانية (8 أغسطس 2025) وصفت الوضع بأنه "فشل للإنسانية"، مؤكدة أن "إسرائيل" تتحمل المسؤولية المباشرة عن هذا الحصار الخانق.
إلى جانب الجوع، تتواصل الهجمات التي تستهدف المدنيين والمؤسسات الطبية. ففي قصف لمستشفى ناصر جنوب القطاع قُتل ما لا يقل عن عشرين شخصاً، بينهم خمسة صحفيين، حسب تقرير إلباييس الإسبانية، استهداف المستشفيات والصحفيين لم يعد حدثاً عرضياً بل سياسة ممنهجة تهدف إلى إسكات الشهود وتقويض أي محاولة لتوثيق الجرائم.
المجتمع الدولي: قلق وتحذيرات بلا جدوى
الأمين العام للأمم المتحدة أعرب عن "قلق بالغ" إزاء خطة الاحتلال الإسرائيلي لغزة، واصفاً إياها بأنها "تصعيد خطير" قد يشعل المنطقة. الصحف الغربية، وعلى رأسها الغارديان البريطانية، انتقدت القرار معتبرة أنه يعكس ضعف القيادة الإسرائيلية وعجزها عن إيجاد حلول سياسية تحفظ حياة الأسرى وتخفف المأساة الإنسانية.
لكن ورغم هذه الإدانات، تواصل "إسرائيل" تجاهل الدعوات الدولية، متمسكة بخيار الحرب الذي يبدو أقرب إلى انتقام جماعي منه إلى استراتيجية عسكرية واقعية، هذا الإصرار يعمق عزلة "إسرائيل" ويزيد من فقدانها للمصداقية على الساحة العالمية، حيث تتهمها منظمات حقوقية بارتكاب جرائم حرب ممنهجة.
"إسرائيل" في طريق مسدود
المشهد الحالي يكشف أن "إسرائيل" غارقة في تناقضاتها، فمن جهة، يصر نتنياهو على خيار عسكري شامل قد يمنحه نصراً قصير الأمد أمام جمهوره الداخلي، لكنه في الواقع يهدد حياة الأسرى ويدفع المجتمع الدولي إلى المزيد من الضغوط والعزلة، ومن جهة أخرى، يحذر قادة عسكريون من أن هذه المغامرة ستتحول إلى مستنقع طويل الأمد يفقد الجيش هيبته ويعرض الجنود لخسائر فادحة.
كما أن استمرار المجاعة والدمار في غزة سيُدخل "إسرائيل" في مواجهة مع الرأي العام العالمي، الذي بات يرى بوضوح أن ما يحدث ليس حرباً على "الإرهاب" كما تدعي تل أبيب، بل حرب إبادة جماعية تستهدف المدنيين العُزّل، وفي ظل هذا الواقع، تتراجع قدرة "إسرائيل" على تبرير أفعالها، بينما تتزايد الدعوات إلى محاسبتها دولياً.
حرب عبثية ومأساة مفتوحة
في ضوء ما سبق، يتضح أن خطة نتنياهو لاحتلال غزة بالكامل ليست سوى مقامرة سياسية تهدف إلى إنقاذ مسيرته المترنحة، لكنها تحمل في طياتها مخاطر كارثية على حياة الأسرى الإسرائيليين وعلى المدنيين الفلسطينيين، تحذيرات زامير تمثل صوت العقل داخل منظومة عسكرية وسياسية مأزومة، لكن تجاهلها قد يقود إلى كارثة إنسانية وأمنية أكبر.
الحقيقة التي تحاول "إسرائيل" إخفاءها هي أن القوة العسكرية لم ولن تحقق الحسم في غزة، وأن استمرار الحرب يعني مزيداً من الجوع والمجازر والعزلة الدولية، ما تحتاجه "إسرائيل" اليوم ليس قصفاً جديداً ولا خطة احتلال شاملة، بل شجاعة سياسية تعترف بالواقع وتختار طريق التفاوض، غير أن حكومة نتنياهو، المنحازة لليمين المتطرف، تبدو مصممة على تكرار أخطاء الماضي، وهو ما يجعل مستقبلها العسكري والسياسي على المحك.